الزمن الأفقي والتصنيف العالمي للجامعات

أ .د. أحمد محمود عيساوي

شاءت الأقدار أن ألتقي في أحد المؤتمرات العالمية بمدينة اسطنبول العام الحالي 1438هـ 2016م جمعا من الأساتذة والباحثين والكتاب الأكاديميين العرب والمسلمين العالميين والمتميزين أيضا، المدعوين لتنشيط فعاليات ذلك المؤتمر العالمي من القارات الخمس، والذي يتناول إشكالية (نظرية المنهاج النبوي في فكر الداعية المجدد عبد السلام ياسين 1928-2012م) مؤسس جماعة (العدل والإحسان بالمغرب)، وقد دار بيني وبين الكثير منهم نقاش فكري وثقافي قُبيل الجلسة العلمية الأولى التي كنت رئيسها، إذ طلبتُ من كل واحد منهم أن يمنحني ورقة موجزة عن سيرته العلمية والمهنية لأُحْسِنَ تقديمه وفق الصيغة الأكاديمية المتعارف عليها عالميا، وإذا بي أجد نفسي مضطرا لضرب موعد معهم بٌعيد الجلسة العلمية من أجل الاطلاع على خبراتهم الإدارية وتقاليدهم العلمية المعمول بها في جامعاتهم، وكانت المفاجأة كبيرة حين التقينا في جلسة نقاشية مفتوحة في إحدى قاعات الفندق حول (دور الزمن الأفقي في التصنيف العالمي للجامعات)، وكيف تشكل خبرة الأساتذة الباحثين العاملين في الجامعة الحلقة الأهم والأقوى في عملية احتساب الزمن الأفقي الذي يختزل ويتجاوز إشكالية وعقدة الزمن العمودي الذي تعاني منه الجامعات النامية والمبتدئة، وانصب الحوار حول الحلقة الأقوى في العملية وهي مكونات ومقومات ومراحل صناعة الأستاذ الجامعي الباحث العامل، ودوره الفعال في تسمين وتجذير أمراس الزمن الأفقي لجامعته، والتي انضم إليها الجمع الغفير من المشاركين لعرض تجارب جامعاتهم، ولعلني أنقل إليكم مقطعا منها له علاقة وطيدة بعنوان مقالنا، والذي يتناول دور الطاقات الجامعية في صناعة وتفعيل الزمن الأفقي وتحقيق التصنيف العالمي بين الجامعات.

وقد لفت انتباهي عميد إحدى الكليات الإسلامية والتي يتم التدريس فيها باللغة العربية الفصحى في إحدى القوى الاقتصادية الإسلامية الصاعدة (تركيا) الذي سلمني بطاقته الشخصية مشددا عليّ أن أستبقيها لنفسي فقط، فاستفسرته عن عمر جامعته وتاريخ تدشينها، فقال لي: إن عمر جامعتنا أكثر من ألف سنة، الأمر الذي اضطرني لمواجهته بالقول ظنا مني أنه يريد الافتخار عليّ، فقلت له: بأن عمر جامعته لا يتعدى عشر سنوات، فمن أين هذا الادعاء الذي يمنح جامعتك عمرا يتجاوز  الألف سنة، وهو عمر يفوق عمر المملكة العثمانية منذ نأسيسها على يد (عثمان بن أرطغرل بك سنة 1302هـ)، فأخبرني بأنهم طوروا مفهوم الزمن التاريخي، فلم يعد التاريخ عندهم تاريخ عمودي، بل التاريخ عندهم أفقي تسطيحي، فزاد حيرتي واستغرابي، وهناك طلبت منه أن يشرح لي هذا المصطلح اللغز الذي طرحه على مسمع الحاضرين.

فقال: في جامعاتنا الإسلامية العالمية نحسب أعمار الأساتذة الباحثين العلمية والفكرية والثقافية، وليس الزمنية، حيث يقاس كل أستاذ بعمره العلمي لا الزمني، فصنف من الأساتذة عمرهم خمسين عاما علميا ومعرفيا، وصنف عمرهم أربعين عاما، وصنف آخر عمرهم ثلاثين عاما، ثم نقوم بعملية حسابية لمحصلة أعمار وخبرات الأساتذة العلمية ونضربها في عدد الأساتذة العاملين فيها، فيصير عمر الجامعة أكثر من ألف سنة، ويصير لكل  أستاذ عمر علمي ومعرفي وأكاديمي وثقافي وفكري، لا علاقة له بعمره الزمني، وتكسب الجامعة عمرها الأفقي من خلال سنين وأعمار أساتذتها وباحثيها، وذلك وفق تصنيفنا للأساتذة وفق الدرجات التالية: (أستاذ درجة أولى)، (أستاذ درجة ثانية)، (أستاذ درجة ثالثة).

وبتعبير عميد تلك الكلية الإسلامية: فإننا نصنف الأساتذة وفق مراتب العقل الثلاث، فأعلاهم درجة هو صاحب العقل الرشيد وصاحب درجة المحجَّةِ، وهو أستاذ في مرحلة (العقل الحكيم الرشيد)، والثاني في الدرجة التي دونه هو صاحب العقل المدرك وصاحب درجة الحُجَّةِ، وهو أستاذ في مرحلة (العقل المُدرك الحِجِّيجُ)، والثالث في الدرجة هو صاحب العقل الموروث، وهو أستاذ في مرحلة (العقل الحافظ التراثي).

وحجتهم في ذلك التصنيف العقلي استنادهم إلى مراتب العقل عند (الحكيم الترمذي ت 320هـ) و(أبو حامد الغزالي ت 505هـ)، و(عباس محمود العقاد ت 1964م) وغيرهم الذين يقسمون العقل إلى تلك المراتب القرآنية التي فطر الله الناس عليها يوم أن خلقهم. ولكن السؤال المهم والطريف هو: كيف يمكن تحديد عمر كل أستاذ؟ فأجابني العميد بقوله: ((إننا لا نقبل في سلك التدريس الجامعي في جامعتنا إلاّ من تجاوزت مؤلفاته الثلاثين كتابا، وحاضر وشارك فعليات أربعين مؤتمرا دوليا بورقة بحثية محكمة))، ونحن لا نقبل في جامعتنا من هم في مرحلة الطفولة العلمية، أو الشباب العلمي، بل لا نقبل إلاّ من وصل مرحلة الرجولة والكهولة والشيخوخة العلمية. وإليك طريقتنا في التأصيل للزمن الأفقي حسب درجة كل أستاذ.

إن الأستاذ الأول صاحب درجة المحجَّةِ ومرحلة (العقل الحكيم الرشيد)، يصل إلى هذه الدرجة بعد احتساب عدد كتبه ومؤلفاته العلمية، فكل كتاب ألفه وطبع ونُشر ووزع ودُرِّسَ يقابل سنة زمنية، على اعتبار أن تأليف الكتاب يحتاج إلى الرجوع إلى أكثر من ثلاثمائة مصدر ومرجع، ففي كل كتاب ألفه استغرق بحثه الغوص في المكتبة المتنوعة، والتي ستمنحه عقول أصحابها وثمراتها فيكتسب منها: عمرا مديدا وزمنا حكيما وفهما رشيدا، شاركهم فيه من خلال الاطلاع على مؤلفاتهم، ويصير مجموع ما قرأه واطلع عليه من الكتب والمؤلفات يقدر بعشرة آلاف كتاب.

كما تُحسب لهم كل ثلاث مشاركات علمية دولية بسنة علمية لتقابل سنة زمنية، وهكذا يصير عمر كل أستاذ من هذا الصنف بعدد مؤلفاته ومشاركاته التي يتقارب الأربعين سنة بين كتاب ومداخلة دولية، فعشر أساتذة من هذا الصنف يعملون في الجامعة يقدر عمرهم بأربعمائة سنة. وهكذا بقية الأساتذة من الصنفين التاليين، بحيث يصير محصلة الفئتين الثانية والثالثة قرابة الستمائة سنة علمية، ومعه يصير عمر الجامعة ألف سنة، ويحل الزمن الأفقي محل الزمن العمودي في الرقي بالأمم الناهضة كنهضة تركيا الحديثة في العقدين الماضيين.

أما جامعاتنا الجزائرية فستبقى خارج التصنيف لأن القسمة فيها ضيزى، وهي: (كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين).     

*باحث وأكاديمي جزائري