*أكاديمي وباحث جزائري
حاجة الفرد المتخلف إلى ثقافة الآلة
أ .د. أحمد محمود عيساوي
يحتاج (الفرد المتخلف) إلى اهتمام كبير، وإلى عناية خاصة،وإلى رعاية منقطعة النظير من قبل الهيئات والمؤسسات الحكومية الرسمية والشعبية بهدف الرفع من قدراته، وتوجيه وتطوير أداءاته، وتجسير إرباكاته، وإقالة عثراته وكبواته، وتجاوز جهله وحوباته، والحد من عقده وأمراضه.. ليتسنى له مسايرة الركب الاجتماعي السوي في حدوده الدنيا المقبولة حضاريا. وهذا في حد ذاته يشكل جهدا إضافيا يقع على كاهل المؤسسات الاجتماعية المعنية بتربيته وتنشئته والتكفل به، ولذلك فهو يكلفها ويرهقها ويضع فوق مسؤولياتها الأخرى أعباءً إضافية كان يمكن الاستغناء عنها لو اضطلعت مؤسسات التنشئة الاجتماعية التأسيسية المكلفة به منذ مراحله العمرية الأولى (التكوين الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي والمهني التخصصي..) ، ولذلك يشكل مصطلح (الفرد المتخلف) مصدر قلق وحيرة وخوف لدى النخب المستشعرة بتكلفة التخلف المادية والمعنوية والحضارية.
فهو عندي –المصطلح- كباحث مهتم بتحليل ظاهرة التخلف وتفكيك بنيتها الأساسية والفرعية، الفوقية والتحتية، الفردية والجمعية، الكيانية والإمكانية، يشكل عامل إحباط وتثبيط بل تهديم لكل مشاريعي وتطلعاتي النهضوية النظرية والواقعية العملية على مستوى المدينة والحي الذي أسكن فيه، وفي محيطي الذي أتحرك فيه (المسجد، المركز الثقافي، المكتبة، السوق، المستشفى، مؤسسات أخرى..)، وفي مقر العمل الذي أُحقق فيه بعض وجودي النفسي والاجتماعي والحضاري، بالرغم من انعدام شروط تحقيق النهضة الجمعية فيه، حيث تبقى نشاطاتي ومجهوداتي محصورة ومقتصرة على تأكيد وتحقيق الذات الفردية ضمن نسق التخلف، وهو ما يعني عدم خلق فعل التراكم الحضاري، الذي يُبنى بالجهود الجمعية، وليس بالاجتهادات الفردية المنعزلة، وهو أكبر إحباط نعاني منه في الجزائر، ولاسيما من ممارسات مؤسسات السلطة المترهلة بالبيروقراطية والفساد.
وسرعان ما يبدو هذا العثار والتخلف جليا وسريعا في سلوك الفرد المتخلف، الذي يُحرجه ويربكه ويشتت صوابه، ويعاني منه بقوة في أعماقه النفسية والوجدانية والعقلية والسلوكية، لما يجد نفسه حائرا مرتبكا في بلد متطور، فيجلس تائها في محطات القطار أو الميترو أو حتى في المطارات والموانىء، ويجد حركة الناس تتحرك جيئة وذهابا وهو لا يعرف من أين يخرج؟ ومن أين يُحصل على وثائقه وحقائبه؟ ولا يعرف مواعيد الركوب والإقلاع؟ ونحوها.. وليس من هذا الوجه تكمن خطورة مصطلح (الفرد المتخلف) فقط، فالكثير منهم قد لا تتاح له فرصة الخروج خارج دائرة وطنه المتخلف، ليتعلم ويتربى مرغما لدى الآخر، بل من وجوه عديدة أخرى لا تخصه هو بعينه فقط، بل تتعلق نتائجها الكارثية بمحيطه ووسطه وبيئته ودولته ووطنه ومجموع الأفراد الذين يحتك بهم. ، ولاسيما عند امتلاكه آلة بصيغة من صيغ المجتمعات والأنظمة المتخلفة المخالفة لكل ما عليه الأمم، حيث تتكون الثروة وفق معايير وآليات وسنن هجينة أخرى، لا علاقة لها بما هي عليه الأمم المتقدمة والمتطورة. كأن يحصل على قرض بالتزوير من وكالة (لونساج) لدعم الشباب فيتحصل على شاحنة يُخصصها لشرب الخمور والبغاء ليلا، أو حافلة يسوق بها بطريقة جنونية فيقتل ويجرح ركابها، أو كأن يحصل على قرض من أحد البنوك بضمان وهمي ليستثمر في الفلاحة أو التشغيل ثم يبيع أو يحرق تلك الآلات أو الفسيلات كما حصل في مشروع تنمية المناطق الريفية بمنطقة بوشبكة بتبسة التي تحولت كلها لجريمة التهريب، فبيع كل شيء وتحولت أنابيب السقي ومحركات استخراج المياه لربط شبكة تهريب الوقود..، أو أن يكون عقود ثقاب في علبة أحد بارونات الفساد في السلطة أو المجتمع، أو أن يكون عاملا ضمن شركة أحد ديناصورات الفساد في البلاد ويستأمنه على إدارة أو قيادة مصنع أو آلة غالية الثمن وعالية التكنولوجيا حصل عليها بالفساد، فلا يعرفان قيمتها.. أو نحوها.
ومن هنا نشأت مشكلات كثيرة أفرزها فرد ومجتمع ونظام وسلطة التخلف، وهو استعمال آلة من غير ثقافتها الحقيقية اللازمة والضرورية لها : تشغيلا وقيادة وصيانة واسترجاعا. وإطلاق العنان للفرد المتخلف ليسرح ويمرح بتلك الآلة وفق ثقافته التخلفية، ووفق ما هو شائع في مجتمع التخلف من مقولات صارت للأسف قواعد وتقاليد تضبط الحياة الاجتماعية، فالفرد المتخلف يُفسد الآلة، ويتهور في التعامل الهمجي معها، وينفلت من الضوابط القانونية والتقنية المتحكمة والمسيرة لها، ويدعها تعمل وفق هواه وشهوته، والدليل على ذلك كثرة حوادث الطرقات ولاسيما الحافلات الكبيرة، وكثرة حوادث العمل، وكثرة الحرائق، وكثرة الأعطاب والتعطلات في الآلات، وتعاظم أكوام الحديد والنفايات، كمقبرة مدينة (الجزار) الحديدية مثلا.
فماذا نحتاج إذن لكبح جماح هذه الظاهرة التخلفية في بلادنا المحتضرة؟ وما هي حدود ومناطات ومسؤوليات كل فرد منا للحد من عنان فرد التخلف هذا؟ وهل نبقى مكتوفي الأيدي نشاهد ونراقب وننتقد فقط؟ أم أن المسألة أعظم من ذلك؟ حيث ينطبق علينا حديث السفينة، وما أدراك حديث السفينة المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يجب أن يعي أولو الأمر أن ترك الفرد المتخلف يعبث بنفسه وبالآخرين هي من أعظم الجرائم في القانون الدولي، فضلا عن عظم رزيتها عند الله سبحانه وتعالى، وهي طريق تدمير الذات الفردية والجمعية، كما نفعل اليوم نحن الجزائريين ببلادنا، ندمر ذواتنا وبيئتنا وبلدنا وثرواتنا من أجل إشباع نهمنا البهيمي والغريزي فقط، ومن أجل تقديس ذواتنا وعبادة أنفسنا الفرعونية المنتفخة.. وأُورد هنا حادثة جرت معي في وكالة من وكالات السيارات حيث كنا نفرا من أصحاب السيارات ننتظر دورنا لإجراء الفحوصات التقنية على سياراتنا حتى ناداني التقني ليستفسرني عن عدد الكيلومترات التي سرتها خلال الخمس سنوات الماضية فأخبرته بأن العداد يشير إلى واحد وثمانين ألف كيلو متر، فتردد في كتابتها حتى خرج ليتفحصها بعينه، فيما انطلق الحضور في الضحك والقهقهات، وأعقبها حصيلة كم ساروا في سنة واحدة، ما يفوق ما سرته في خمس سنوات، ومن خلال هذا السلوك الهمجي في التعامل مع الآلة ومن غيره فككت تلك الظواهر الاجتماعية التخلفية التي أمامي، وقلت إن هؤلاء يأكلون ويشربون ويجلسون وينامون في سياراتهم الفخمة، وهو عين سلوك الفرد المتخلف مع الآلة. وكذلك الحال مع شبكات التواصل والهاتف النقال وسائر الأجهزة التي صنعها القوي للمتخلف، حيث بات الناس قابعين خلف الزجاجات الرقمية، لا يكتفون بحاجاتهم الاتصالية بل يدمنون ويجترون نفايات التخلف عبر العبِّ من الجرعات الاتصالية الزائدة عن القدر المطلوب.
وعليه فقد وجب على مؤسسات التنشئة والتربية والتكوين والردع وضع الأمور والقوانين واللوائح والمراسيم ورجالها والقائمين عليها في نصابها الثقافي والسلوكي والقانوني، كما يجب فرض ثقافة التعامل مع الآلة بالقوة القانونية والأخلاقية والردعية، لتصير لدينا ثقافة اسمها (ثقافة الماكينة) أو ثقافة التعامل مع الآلة، حيث الثقافة هي المعارف والحقائق والعلوم التي تعلمناها وتربينا عليها عقلا ووجدانا وسلوكا ومنهجا، ثم نسيناها كمعارف ولكننا لم ننساها سلوكا وطريقا ومنهجا.
فإن نجحنا في ترسيخ ثقافة التعامل الرشيد مع الآلة في هذا الفرد المتخلف، وبذلك نكون قد سعينا لشق طريق النهضة، وإلاّ فانتظروا الغرق في أكوام الحديد والنفايات وقوارير الخمور، وهل تعتقدون أننا خلقنا لهذا العفن؟
تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة ..... المزيد
المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات ..... المزيد
ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم ..... المزيد
“الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف ..... المزيد
سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024 ..... المزيد
فهم ما يجري في المنطقة من اضطرابات
صدقة يحيى فاضلمجتمعنا بحاجة لمؤسسة تعزيز الصحة
الدكتور عبدالرحمن القحطانيهل بدأ اليوم التالي في المنطقة؟
حمود أبو طالبالتعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية ..... المزيد
ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة ..... المزيد
البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية ..... المزيد
أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري” ..... المزيد
أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع ..... المزيد
شاركنا بتعليق
لا يوجد تعليقات بعد