عناوين الأخبار

حقيقة الأزمة الجزائرية هشاشة فرد وتصدع جماعة وموت نخبة

السبت 16 ذو الحجة 1437هـ 17-9-2016م       -       01:36:24 ص
حقيقة الأزمة الجزائرية هشاشة فرد وتصدع جماعة وموت نخبة

أ.د. أحمد محمود عيساوي

يُخطىء أو يغالط نفسه من يعتقد أن الجزائر بخير كما يحلو لبعض السياسيين أو البلْهِ التقعر به في المجالس أو عبر وسائل الإعلام، وأن الفرد الجزائري فرد طبيعي وسوي ووطني وغيور على وطنه وحرماته ودليلهم حماسته المنقطعة النظير في الملاعب، ويخطىء أيضا من يعتقد وهو يشاهد المظاهر والمشاهد الخارجية التي تنقلها وسائل الإعلام المختلفة ولاسيما المسيسة منها التي تنقل شكليا  نشاطات المؤسسات والهيئات الرسمية وحركة ونشاطات الجماعات البشرية المُفرغةِ أننا بخير، وإن كانت الصورة الخارجية توحي بأن الحياة تبدو جد طبيعة وعادية في القطر الجزائري، ويخطىء أيضا من يعتبر أن شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والدينية والتربوية والصحية وغيرها.. تسير وفق النمط الذي سيؤهلنا لنبني مدنية مادية رائدة فقط، بَلْهَ حضارة تقود الأمم وفق مناطات الرسالة الإسلامية التي نزلت فينا، وهو الانطباع السريع والساذج الذي يخرج به من لا يعرف قواعد وضوابط وأسس ومعالم ومواصفات تكوين الفرد والجماعة والمجتمع والدولة.

كما يخطىء أيضا من يعتقد أن الأزمة الجزائرية سهلة الحل كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين، وأن سائر المشاكل يمكن محاصرتها وتطويقها والحد منها بما نحن عليه الآن من هذا النمط السلوكي والثقافي الرسمي والشعبي المختل جدا، والذي لا يُشبه ما عليه الأمم الطامحة للنهوض، ويخطىء أيضا من يظن أننا نبني مجتمعا ودولة وكيانا مستقبليا أفضل بمثل هذه الممارسات التي نحن جزء ومكون أساسي من وفي صناعة رداءتها، فهل هذا الادعاء صحيح؟ أم هو مجرد كلام حاقد مبغض يكره بلاده وسلطتها؟ أم أن المسألة أكبر من ذلك كله؟ أم أننا نعيش بالفعل  أزمة حقيقية هي أم الأزمات ولا ندري ذلك؟

إن حالنا البئيس اليوم (والبؤس ليس بفراغ البطن والمعدة، وخلو الأيدي من الأشياء) ينطبق عليه قول الشاعر (أبو الطيب المتنبي ت 354هـ): ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.

إن الدارس الرسالي الفطن والمتمعن في شبكة علاقاتنا الاجتماعية الأسرية والجمعية في العمارة والحي والمدرسة والمسجد ومكان العمل وفي سائر مؤسساتنا ومرافقنا الحياتية سيكتشف أن أزمتنا عميقة وكبيرة وخطيرة جدا، وما لم نسارع إلى معالجتها بحكمة ومعرفة وعمق وصدق أيضا، وبعيدا عن الرتق والترقيع والتلفيق.. الذي درجنا عليه منذ عصر ما بعد سقوط دولة الموحدين سنة 1246م، فإننا سنظل نسير بترنح نحو أفق مُضبب ومستقبل غامض رسمه لنا – ومازال يرسمه- الأقوياء والجبابرة علميا ومعرفيا وتكنولوجيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا..

إن أزمتنا الحقيقية والعميقة تكمن في أننا لا نملك إنسانا سويا بكل ما تحمله كلمة الأنسنة المادية والروحية والمعنوية والعقلية والثقافية والسلوكية من معنى، إن أزمتنا الحقيقية أننا نملك كائنا استهلاكيا وأنانيا محموما ومندفعا وراء تحقيق رغباته وشهواته بكل الطرق المتاحة قانونية كانت أو غير قانونية، شرعية أم غير شرعية، وهو مستعد لالتهام الأخضر واليابس، وحرق الغابات والواحات وتلويث البيئة والمياه وقتل الناس وترويعهم، وإفناء الحيوانات وسائر الكائنات وتهريب ثروات البلاد وإدخال السموم والأسلحة والمخدرات.. ونحوها من أجل شهواته وأنانيته،  أما الغياب عن العمل والعبث بمقدرات وثروات الأمة وحاضرها ومستقبلها وتشويه ماضيها والعبث بمصيرها فهي من بين الممارسات اليومية والاعتيادية التي بات الحديث عنها مضيعة للجهد والوقت، والتي صارت من مألوفنا وعاداتنا في سائر شبكات حياتنا الاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية وغيرها، حيث الفساد صار شعار الناس جميعا، إلاّ من رحم ربك.

إن أزمتنا الحقيقية والعميقة هي أننا لا نملك فردا سويا وصالحا بأبعاده الأربعة: (العقلية والوجدانية والسلوكية والإنجازية)، فقداننا للبنى التحتية المُؤسسة للكيان البشري للفرد الصالح هو عمق أزمتنا، وهو فداحة خسارتنا ونكبتنا بين الأمم، حيث ربحت الأمم في صناعة فرد مؤهل مؤطر مكون مدرب فاعل، بخدم أمته وينهض بها، ولا يكون عالة عليها، ينتظر منها المنح والعطايا والمكافآت دون وجه حق سوى شراء غبائه الأرعن وسكوته الأبكم وغفلته الانتخابية، أمدا في إطالة حالة الغيبوبة والتيه العماء لمرحلة انتخابية قادمة، على حد قول الشاعر: كالعيس في البيداء يقتلها الظمى ** والماء فوق ظهورها محمول.

ففردنا فرد أناني وصولي منفعي وضيع يبني بأنانيته نفسه على حساب مؤسسات ومقدرات الأمة، فهو الشركة والإدارة والمؤسسة والجامعة والمستشفى..، وهو الفرد المهووس بعظمة الفردانية حد عبادة نفسه، وتحويل منصبه ومسؤوليته ومقدرات الأمة ُأقْنوماً متحدا بناسوته، فما بناه بأنانيته مستعد لتهديمه بنفسه حالة فصل لاهوت جبروت فردانيته عن ناسوت منصبه في المؤسسة. ولا يختلف في ذلك متعلم عن أمي، ولا جاهل عن مدعي الاسترشاد، ولا أديب مثقف نخبوي عن أي فرد عادي من الناس، وإلاّ كيف نفسر مرض النخبة وهروبها وخيانتها لمناطاتها ومسئولياتها الرسالية، فهي حسب تشخيصي العميق  لها جزء من المرض والعفن، وليست جزءاً من الانفراج والحل، لا تختلف في أنانيتها وفردانيتها وتألهها عن ممارسة الجاهلين والأميين، بل أكثر غطرسة وعنجهية بفعل الأمشاج الفكرية والثقافية الهجينة التي حشت به أدمغتها وممارساتها..

فهل يمكننا أن نعتبر أن أزمتنا خفيفة وعابرة وسطحية ونحن نعيش مع كائن همجي استهلاكي كهذا؟ أم هي أزمة غائرة وعميقة؟ وهو سؤال دأبت طرحه منذ أكثر من ثلاثة عقود، وينصب سؤالي دائما على دور النخب في النهضة بالأمة والأخذ بيدها، فإذا استطاعت الأمم أن تنهض بفعل وفاء وتضحيات وجهود نخبها، فهل قدمت نخبنا ما يساوي أو يعادل ما أخذته من مقدرات وثروات هاته الأمة، أم أنها أشبه بالقراد على جلد الكلاب يمتص دماءها فقط حتى آخر قطرة دم؟

وإذا رمقت بنظرك الجماعة وشبكاتها التواصلية ستجد الأفدح من ذلك، حيث ستكتشف صميم أزمتنا الجمعية أيضا، فهي ليست أزمة فرد وجماعة بل هي أزمة مجتمع أيضا، إذ أننا لا نملك مجتمعا بكل ما يعنيه مصطلح المجتمع من معنى، فالمجتمع هو محصلة تفاعل وتعاون وترابط الأفراد والبيوت، وليس محصلة تجميع وتكديس وحساب عدد البيوت والأفراد كما هو حالنا اليوم، أنانية وفردانية مفرطة، فلا أحد يكترث بأحد. وإذا قمنا بتفحص واقع وجدلية علاقة الفرد والمجتمع في المجتمعات الناهضة سنجد أن الفرد في المجتمعات الناهضة يعيش خادما وفيا وصادقا ومخلصا للمجتمع الذي تكفل به منذ طفولته وضمن له سائر حاجاته ومتطلباته حتى أوصله لسن العطاء، فهو فرد آخذ منه في مرحلة، وباذل له في مرحلة أخرى.

فهل مجتمعنا ووطننا الجزائري الغني يكفل لأفراده الحدود الدنيا من الحياة الكريمة؟ أم أن الفرد يعيش في حالة حرب وصدام لانتزاع حقوقه من آلهة الإدارة ومستكبري المناصب من آلهة الإدارة متجهمي الوجوه ، أم أنهم يسعون جاهدين للبحث عنه والتكفل به؟

والحقيقة الساطعة هنا أن الكل يعرف الإجابة على هذا السؤال بكل يسر، ولكن الذي لا نستطيع الإجابة عنه هو ما نحن عليه الآن كأفراد ونخب وجماعات ومجتمع وسلطة.. هو أننا لو أردنا أن نقدم حصيلة لما نقدمه لمجتمعنا سنكتشف بالمعايير العالمية أنه لا يبني وطنا بالمعنى المادي الوضعي البحت، فضلا أن نحشره ضمن زمرة البناء الشرعي العظيم، فلله المشتكى والمفر. 

* باحث وأكاديمي جزائري  وعضو عامل في رابطة الأدب الإسلامي العالمية

يمكنك الوصول للخبر بسهولة عن طريق الرابط المختصر التالي:
https://alssehafi.org/?p=5848

شاركنا بتعليق








لا يوجد تعليقات بعد



 تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة

تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة ..... المزيد

 المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات

المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات ..... المزيد

 ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم

ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم ..... المزيد

 “الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف

“الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف ..... المزيد

 سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024

سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024 ..... المزيد

 التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية

التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية ..... المزيد

 ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة

ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة ..... المزيد

 البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية

البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية ..... المزيد

 أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري”

أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري” ..... المزيد

 أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع

أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع ..... المزيد

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com