الغزو الفكري
ياسر بن عبدالله البواردي*
كان العالم غابة يأكل بعضها بعضًا، الناس فيها لا تعرف قانونًا إلا قانون القوة، تُغِيْر الشعوب القوية على الشعوب الضعيفة في همجية ووحشية؛ فيقتل القويُ الضعيفَ ويسبي نساءه ويستعبد أولاده وينتهب أمواله ويدنس حرماته…
حتى جاء الإسلام فوضع القواعد والضوابط، وجعل السلام والتعايش والوئام هو الأساس، وجعل الحرب لغاية سامية؛ لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولتحرير العقول والقلوب والأبدان.
وعاش العالم حقبًا من الزمان تحت القيادة الإسلامية لم يشهد مثلها، فتعلم الناس من الإسلام معنى الشرف ومعنى الرحمة ومعنى السمو ومعنى السلام، وذاقوا -مسلمين وغير مسلمين- معنى الأمن والأمان… حتى دارت الدائرة -والأيام دول- وانتقلت القيادة لغير المسلمين، فرأينا الفظائع والمآسي.
رأينا التتر المغول يعيثون في الأرض فسادًا، كأنهم يأجوج ومأجوج، يذبحون البشر كالشياه، ويردمون النهر بكتب العلم، ويحرقون الحواضر الإسلامية… في همجية ووحشية وغوغائية.
وجاءت من بعدهم الحملات الصليبية تغزو العالم الإسلامي في شراسة وطمع، جاءت بلصوصها بعد أن أطلقتهم من سجونها، بمباركة من باباواتها، ترفع شعار الحرب المقدسة! فسفكت الدماء وسرقت أرزاق الشعوب ودنست كل مقدس، وتوالت تترى حملة ثم حملة من بعد حملة… سبع حملات عادت كلها خائبة بائرة الآمال، لكن بعد أن سفكت دماء المسلمين وانتهبت أموالهم!
ثم انطلق المحتلون الجدد وغزاة العصر الحديث يتقاسمون كعكة «الرجل المريض» بعد سقوط الخلافة العثمانية، فهذي بريطانيا "العظمى" تحتل جزءًا من العالم الإسلامي، وهذي فرنسا تحتل جزءًا آخر وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا… كل يأخذ قطعة وينهش نهشة وينتهب نهبة!
واشتعلت القلوب ببغض المحتل العسكري، وانتفضت الأمة الإسلامية فصارت تربي أبناءها على كره المحتل المغتصب وتزرع فيهم روح الجهاد وروح الثأر والانتقام من الغاصب، يغذي ذلك ويزكيه إدراك المسلمين صدق قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب» [الطبراني في الأوسط (3839)، وصححه الألباني (الصحيحة: 2663)].
وإذا بالثورات الإسلامية الجهادية تندلع في مختلف الدول الإسلامية المحتلة، فهذا عمر المختار في ليبيا يقاوم الاحتلال الإيطالي بمن معه من المجاهدين، وهذا الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي يقاوم المحتل الغاصب في المغرب، وهذا الأمير عبد القادر الجزائري يقود الجهاد ضد المحتل في الجزائر، وفي المغرب العربي كذلك حمل لواء الجهاد الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي… فغلت بالمحتلين المراجل وتزايدت خسائرهم المادية والبشرية ولم يقر لهم قرار، وثارت الأمم باسم الإسلام فلفظت أولئك المعتدين السرَقة.
وفشلت كل حملة وأخفق كل غزو وخاب كل احتلال، وأدرك الغزاة المحتلون أنهم مهما امتلكوا من عتاد متقدم وأعداد كثيفة لن يستطيعوا أن يخمدوا تلك الروح الإسلامية الجهادية، وعلموا تمام العلم أن قوة المسلمين الحقيقة فيما يحملون في قلوبهم من قرآن وعقيدة وهوية إسلامية، وذاك ما لا يستطيع سلاح حربي أن يغلبه.
وانطلق قادتهم ومثقفوهم ومفكروهم يعلنون ذلك صراحةً في غير ما مواربة ولا حياء من افتضاح، فهذا جلادستون رئيس وزراء بريطانيا يقول: «ما دام القرآن في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، أو أن تكون هي في أمان»!، وهذا بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل يقول: «إن أخشى ما أخشاه أن يظهر في العالم الإسلامي محمد جديد»!، وهذا الحاكم الفرنسي للجزائر يقول: «إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرءون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم، ونقتلع اللغة العربية من ألسنتهم»!، والمنصِّرون يقولون: «إن القوة الكامنة في الإسلام هي التي وقفت سدًا منيعًا في وجه انتشار المسيحية»!، وفي الدول الشيوعية يقولون: «من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائيًا»!… [استمع محاضرة الشيخ محمد إسماعيل المقدم: أمتي لا تنحرف 3].
وساد هذا الشعور بين الأعداء المتربصين بالأمة الإسلامية حتى صار عندهم عقيدة وقناعة؛ أنما الإسلام -بقرآنه وسنته والمتمسكين به- هو العدو الأول والأخطر والذي يجب أن يُزال لتتحقق طموحاتهم! وأنهم لن يستطيعوا أن يستأصلوا الإسلام من قلوب المسلمين بقوة السلاح وكثرة العدد والعتاد أبدًا! فانطلقوا يخططون لتنفيذ غايتهم الخبيثة تلك لكن بأسلوب آخر أشد خبثًا.
وعليه: فقد لجئوا -بعد الدراسات والأبحاث والتأمل والتفكر- إلى أسلوب أقل كلفة وأبلغ تأثيرًا وأعظم نجاحًا؛ ذاك هو أسلوب: «الغزو الفكري»؛ يدسون السم في العسل! ويكسون الورم الخبيث بثوب من حرير! ويطلون النهار بالسواد حتى تقول: هو ليل! ويشبعون الليل بياضًا حتى تظن أنْ قد طلع النهار! ويضعون على الأعين الغطاء الخادع، وعلى القلوب الران الأغبر، وعلى العقول الغشاوة الكالحة!
وقد كانت أولى خطواتهم ليصنعوا ذلك أن يُشعِرُونا بالهوة العظيمة والفرق الكبير بين تخلفنا وتحضرهم، وتأخرنا وتقدمهم، وتعثرنا وتمكنهم… حتى ننهزم نفسيًا من دواخلنا فنطيعهم ونقلدهم تقليدًا أعمى في كل شيء حسنًا كان أو قبيحًا، بل وننقاد لهم -منبهرين مذهولين مخدوعين مشدوهين- كما ينقاد المغلوب لمن غلبه، والعبد لمن ملكه!
ونأسف وتدمع عيوننا وتتمزق أفئدتنا ونحن نعترف فنقول: لقد نجح أعداؤنا في غزوهم الفكري للأمة الإسلامية نجاحًا باهرًا لعلهم لم يكونوا يتوقعونه أو يحلمون به، فلقد سلطوا علينا الغزو الإعلامي من قنوات فضائية إلى شبكة عنكبوتية… حتى وقع قطاع كبير من المسلمين في براثن الشهوات والتفاهات, فلم يسلم من ذلك صغير ولا كبير إلا من رحم ربك، وجنَّدوا أناسًا من جلدتنا فتكلموا بألسنتهم وانتهجوا نهجهم واتخذوهم سادة وقادة وصاروا لهم عبيدًا وأتباعًا وخدمًا!
ورأينا شبابنا وقد اختلطوا ببناتنا اختلاطًا محرمًا باسم المدنية المستوردة من الغرب، ولو حاولت التعرف على ذكورهم من إناثهم فلن تستطيع إلا بجهد جهيد؛ فكلاهما يلبس البنطال والقميص، وكلاهما أطال شعره وأسدله خلف ظهره، وكلاهما يقفز ويلعب ويلهو، وكلاهما يلهيه التافه والحقير!
ورأينا من مفكرينا -الذين أصابتهم الهزيمة النفسية- من ينادي باتباع الغرب واقتفاء أثره واستنان سنته في كل شيء حتى في طريقة الأكل والمشي والنوم!
ورأينا إعلامنا وقد تخلى عن قيمنا وأخلاقنا ومبادئنا، بل وعن ديننا وعقيدتنا وشريعتنا، وانطلق لا يحكمه عرف ولا إسلام، ولا يدين إلا بدين الحضارة الغربية!
ورأينا لغتنا العربية غريبة ثقيلة مكروهة بين أبنائها، يستحون منها في الوقت الذي يتفاخرون فيه ويعتزون باللغات الأجنبية!…
رأينا ألف عجيبة وعجيبة وألف مبكية ومبكية وألف مصيبة ومصيبة !… أمة قد تخلت عن هويتها، أطاعت أعداءها وأسلمتهم قيادها! تنكرت لما فيه مجدها وعزها وتفردها وشرفها! انسلخت من كرامتها وأصالتها وأصولها! واستعاضت عن قمم الجبال بأوحال وأطلال! رضيت بالكفار والملحدين والمشركين وأحفاد الخنازير سادة فوق أعناقها!
لقد غزوا أفكارنا وعقولنا، وغزو بيوتنا وأولادنا، وغزوا مدارسنا وجامعاتنا ومناهجنا، وغزوا شاشاتنا وصحفنا، وغزوا كل حياتنا وجميع شئوننا، على حين غفلة منا! وما تركوا مجالًا من المجالات إلا وغزوه… لكنه غزو ناعم هادئ صامت لا تكاد تحس به أو تشعر بوجوده إلا فجاءة حين تصطدم به وقد تفشى واستشرى! تمامًا كما الورم الخبيث؛ يتسلل ويكمن ثم ينمو رويدًا رويدًا حتى يتمكن ويتضخم فيكتشفه المبتلى فجاءة بغير سابق إنذار ولا إشارة!
وهكذا فقد أدركنا وانتبهنا لآثار الورم الخبيث المسمى بالغزو الفكري فجاءة فوجدناها في كل مجال: ففي مجال المناهج التعليمية نقرأ في كتب التاريخ أن الفتح الإسلامي للبلدان «غزو»، فنقرأ: "الغزو العثماني لمصر!"، و"نكتشف" أن الاحتلال الفرنسي "حملة" وليس غزوًا، وأن له "فوائد"! فنقرأ: "فوائد الحملة الفرنسية على مصر"!
والأم وابنتها في صور الكتب الدراسية متبرجتان، والفتاة الأنيقة ملابسها -في صور كتبنا- فوق الركبة أو تحتها بقليل!
وفي مجال الثقافة والفنون: يعلموننا أن «طه حسين» -بوق الغرب في مجتمعاتنا- هو: "عميد الأدب العربي!"، وأن قاسم أمين وهدى شعراوي ولطفي السيد -زارعوا بذور السفور والانحلال- هم: "دعاة تحرير المرأة"!
وفي مجال عقيدتنا وشريعتنا انطلقوا يشككون ويهرفون ويجتذبون طلاب العلم ليحصلوا على «الماجستير والدكتوراة» في العلوم الشرعية من جامعاتهم! فيعودوا ممسوخين مشكَّكين ومشكِّكين؛ يقولون: «الشريعة الإسلامية لا تصلح لزماننا»!… وفي كل مجال ترى أثرًا خبيثًا لغزوهم.
أمة تاهت وضلت والدليل بين أيديها! أمة كابدت الظمأ والعطش والنهر العذب الفرات يجري بواديها! أمة نسيت نبيها -صلى الله عليه وسلم- وهجرت قرآنها واستيحت من إسلامها! أمة تحث الخطى إلى ما فيه الردى، وتلقي نفسها -باختيارها- إلى التهلكة!… فيا أمة ضحكت من جهلها الأمم!
متى تستيقظين يا أمتي؟! متى تستيقظين؟! هي استغاثة حارة ونداء عاجل نفثه قلب شاعر متيقظ غيور:
استيقظي يا أمتي من قبل أن تتمزقي من قبل أن تتشتتي في ظلمة الدرب الشقي
أعداؤنا يخططون، يدبرون، وينفذون، يا أمتي!
فلتنظري: كل الشعوب توحدت إلا أنا! كل الجهود تكاتفت إلا أنا!
أنا الذى أدمى أنا! أنا الذى أسبى أنا!
نلهو وأعداء لنا متربصون، يتأمرون، يترصدون، ويرصدون يا أمتي!
ودائمًا نقول كنا! يا أمتي: نريد أن نكون…
*
يا أمتي يا شـمــــوخ الـنـسر مــعـــذرة * إذا أتـيــت أضــم الأمــس مـفـتــخرًا
لـم أذكر الأمــس كي أغـفــو بخيمته * ولا بكـيـت عــلـى أطـــــــــلاله سحرًا
لكنني قد رأيت الزيف قد خفقت * رايــاتــــه ورأيــت الـحــــق مــنــحـــسرًا!
إني أغـــــار عـلـى جـــيــل غــــــدا هملًا * مطوحًا بكئوس الغرب قد سَـكــر
جـيــل يـغـمـغـم فـيـمـا لا تعـي أذُنـي * كــأنـه ما تـلا آيــًا ولا سُـــورًا!
جـيـل أكـــاد أرى أحـــلامـه مِــــزقًـا * وكـلمـا راح يـجـــري جــريه عــثــر
وفـي الـهــــداية لـم أســـمع له خـبرًا * وفي الغــواية شـــدَّ القوس والـوتر!
رأيــت كـــل هــجـين في ثـقــافـتــه * إلا "الكتابَ" فلم أبصر لهُ أثرًا!
*إمام وخطيب
تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة ..... المزيد
المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات ..... المزيد
ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم ..... المزيد
“الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف ..... المزيد
سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024 ..... المزيد
فهم ما يجري في المنطقة من اضطرابات
صدقة يحيى فاضلمجتمعنا بحاجة لمؤسسة تعزيز الصحة
الدكتور عبدالرحمن القحطانيهل بدأ اليوم التالي في المنطقة؟
حمود أبو طالبالتعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية ..... المزيد
ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة ..... المزيد
البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية ..... المزيد
أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري” ..... المزيد
أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع ..... المزيد
شاركنا بتعليق
لا يوجد تعليقات بعد