عناوين الأخبار

المقروئية لدى النخبة الجامعية

الجمعة 30 شعبان 1438هـ 26-5-2017م       -       01:35:13 ص
المقروئية لدى النخبة الجامعية

أ. د. أحمد محمود عيساوي 

منذ ما يزيد على عقد من الزمن، ومع انتشار وتوفر الهواتف والحواسيب والألواح الرقمية المتطورة، وتوسع استعمال وسائل ووسائط الاتصال الإلكترونية والشبكية بوتيرة برقية متسارعة ومذهلة، ومع حالة الاعتماد الكلي على الوسائل الإلكترونية في شتى مجالات الحياة، وتحوّل بوصلة الجماهير الاتصالية نحو إشباع حاجاتها وتلبية رغباتها عبر الفضاءات الإلكترونية، حدث انقلاب كلي في صميم البناء الاجتماعي والثقافي والتربوي والسلوكي والأخلاقي.. زلزل كل التقليدي والموروث المتعارف عليه منذ قرون خلت، وفكك بوحشية وعنف ومن دون استئذان هرم المجتمع حين مس نخبته القائدة، وهشم بؤرته المفكرة والموجهة والمنتجة للمعرفة، بشكل غير مسبوق وسيليا وحضاريا. وقد استرخت الجماهير الاتصالية واستلذت في بداية تعاملاتها مع الوسائط الإلكترونية الحديثة والمتطورة بشكل ملفت للانتباه، وعُدَّ الأمر مجرد مسألة إعجاب بمنجز وسيلي جديد لا يختلف عن السيارة والطيارة والقطار السريع وغيره من منجزات المدنية الحديثة، ولم تكن التكهنات العلمية والاستشرافية لترقى يومها على أن تصور لنا هذا الواقع الإلكتروني المأسوي الذي وصلت إليه البشرية اليوم، بحيث يمكن لمجموعة من الهواة والمغامرين الإلكترونيين (هاكرز) تعطيل أدق وأعقد الشبكات الإلكترونية وتحطيم وتبديد وخلق فوضى إلكترونية في العالم كله بمجرد إتقان فنون التلاعب الإلكتروني.

وقد تسارعت الوسائل الإلكترونية والرقمية لتصل وتهيمن على فضاء العلم والمعرفة والتربية والمؤسسات العلمية والجامعية والبحثية، وصار القرن الواحد والعشرون ومنذ سنة 2002م وبعد مهرجان فرانكفورت للإعلامياء الذي رفع شعار (منذ متى وأنت غارق في شبكة المعلوماتية؟)  يسمى بعصر المعرفة، مودعا عصري الإعلام والمعلومات، وصارت عملية الوصول إلى المعرفة أمرا ميسرا وسهلا وسريعا وكثيفا ومتزامنا ومتنوعا.. واندفعت النخب الحقيقية والمنتجة والمتعطشة للمعرفة نحو هذه العوالم الافتراضية تعبُّ وتغرف منها في تأسيس منتجاتها ومشاريعها الحضارية، واستغنت تدريجيا عن التعاملات الورقية في شتى المجالات شيئا فشيئا، إلى أن مست فضاء وعالم الكتاب الورقي، حيث عرفت عملية التعرف على الكتاب الإلكتروني والتعامل معه -كبديل حداثي جديد يوفر الزاد المعرفي الكافي لمباشرة ومواصلة تفاعلاتها وتواصلاتها المعرفية المحلية والعالمية- حالات من السعادة واللذة والسرور لدى النخب الجامعية والبحثية المتميزة، التي ظلت بعيدة عن التأثيرات السلبية للمنجز الإلكتروني الجديد، الذي استطاعت أن تقفز بشعوبها ودولها نحو التقدم والرقي والرفاهية، ولتضعها في مصاف الدول الأكثر تطورا وتقدما في العالم.

وخلال عمليات التحديث والتطوير والاندفاع الحضاري والمعرفي المذهل الذي شهده العالم المتقدم، نجد في الطرف المقابل كيف أثّر هذا الوضع الإلكتروني الجديد بشكل سلبي وسيء ومرضي في الشعوب والأمم المتخلفة ولاسيما النخب الجامعية منها، فاندفعت نخبها نحو الفضاء الإلكتروني وهي غير محصنة لا بمرجعية مادية وضعية تضع للمصلحة والحسابات المادية والزمنية والرقمية أي اعتبار كما هو الأمر في العالم المتقدم الذي تُحسب فيه الدقيقة بعشرات أو المئات أو الآلاف من الدولارات، ولا للمرجعية الدينية والاجتماعية أي اعتبار، فغادرتْ من غير رجعة ومن غير تحصين فضاءاتها الورقية دون أن تتمكن وتتمهر في الفضاءات الإلكترونية الحديثة، فلا هي انتفعت بالموروث الاجتماعي والورقي الأصيل، ولا هي خاضت بوعي وثبات ورصانة وفاعلية وحذق ورغبة الفضاءات الإلكترونية، فانعكست فوائد ومنافع وعوائد تلك المنجزات الوسيلية والإلكترونية لدى الآخر إلى تدمير وتخريب وإضاعة للوقت والجهد والمال والهدف والمكانة و الدور والمصير.. لدى الشعوب والأمم المتخلفة.

وقد أجرى أحد الباحثين الجامعيين المتمرسين في مجال البحث الاجتماعي والاتصالي والإعلامي المعرفي دراسة علمية أكاديمية متطورة استخدم فيها جملة من الأدوات المُطورة معرفيا ومنهجيا ووسيليا، تجاوزت وسائل البحث الاجتماعي التقليدي (الاستمارة، والعينات، والمسح.. وغيرها) مست أساتذة وتلاميذ كلية كبيرة ومتميزة في إحدى كبريات الجامعات الجزائرية، وحاصر الباحث عيناته المدروسة، وعددهم (مائة 100 أستاذ جامعي بينهم أربعين أستاذ برتبة أستاذ التعليم العالي: بروفيسور)، وفق مؤشرات متباعدة ومتنوعة ومن زوايا بحثية ومنهجية مختلفة، ليكتشف مدى علاقة هذه النخبة بالقراءة، وممارستها لفعل المقروئية المقدس، بحيث اعتمد على الوسائل البحثية الآتية:

1 – زيارة أشهر عشر مكتبات تبيع الكتب في تلك المدينة وعاين ولاحظ وسأل واستفسر على مدى أزمنة متنوعة ومتباعدة القائمين على تلك المكتبات حول زيارة الأساتذة الجامعيين لمكتباتهم، وقد أدت به حيثيات الدراسة أن يمكث مدة ساعة في كل مكتبة وهو يقلب الكتب وينظر في العناوين والرفوف لينتظر قادما جامعيا يدخل تلك المكتبة، التي لم يدخلها طيلة ساعة كاملة واحدا، غير طالب جامعي جاء يسأل عن مقرر جامعي يدرسه عند أستاذه.

2 – القيام بالمعاينة والملاحظة والاطلاع والتحري الدقيق في مكتبة تلك الكلية، والنظر في روادها القليلين جدا، من خلال المعلومات الدقيقة المقدمة من قبل القائمين على تلك المكتبة، التي تضم عشرين ألف (20000) عنوان، وتسعين ألف (90000) نسخة.

3 – القيام بعملية بحث اجتماعي تقليدية بهدف طمأنة العينات الجامعية الكاذبة والغبية، بحيث قدم لهم استمارة تقليدية أجاب فيها الجميع بكونهم من القراء الدائمين للكتب الورقية والإلكترونية معا من غير منازع ولا مدافع.

4 – تقديم استمارة استفزازية تحفيزية اعتمدت مبادئ وخطوات نظرية (بافلوف) في الارتباط الشرطي في مراحلها المتأخرة، لحظة قرع الجرس وسيلان اللعاب وعدم تقديم الطعام لكلب (بافلوف).

          وكانت النتائج كارثية – للأسف الشديد- عن حال المقروئية لدى تلك النخبة الجامعية الرسالية المبحوثة، والتي يُفترض فيها أنها مُوجهة للأمة ومُنتجة للمعرفة، وها هي نتائج الدراسة، وها هي مستويات النخبة الجامعية في تلك الكلية الرسالية، والتي تمنحها السلطة غلافا ماليا معتبرا وبالعملة الصعبة أيضا كل سنة.           

نتائج الدراسة:

1 – اشتكى أصحاب المكتبات من عدم زيارة أولئك الأساتذة لمكتباتهم منذ سنوات، فهم لا يرون أستاذا جامعيا يدخل مكتبتهم منذ سنوات، كما قادت الباحث للوقوف على حالة الهجران التام للمكتبات، فهي مليئة الرفوف بالكتب، فارغة من الرواد، إلاّ من الكتب المدرسية للمراحل التعليمية الثلاث.

2 – كثرة عدد حوانيت التصوير، وطباعة المطبوعات التي لا تزيد على بضع صفحات، في غياب صارم لتطبيق الرقابة حول ما يُدرس في الجامعة.

3 – أدلى المسؤولون عن المكتبة الجامعية أن عدد الأساتذة الذين يدخلون المكتبة في السنة خمسة فقط، أربعة يستلفون الكتب باستمرار، والخامس يُحضر تلامذته ليستلف لهم الكتب، وأن عملية الإعارة نادرة لدى الأساتذة، على عكس الطلبة، والمكتبة مهجورة تتعرض كتبها للنسيان وللغبار ولعاديات الزمن. كما اكتشف ذلك الباحث سر بهجة وسرور موظفات المكتبة بقدومه، لكونه يؤنس وحشتهن.

4 – أرسل الباحث للأساتذة المئة 100 المبحوثين كتابا إلكترونيا طبع في أرقى سلسلة علمية بالكويت مرفقا برسالة طيبة يطلب منهم أن يقرأوه ويرسلوا له وجهة نظرهم، فلم يرد عليه أحد.

5 – أعاد الأستاذ إرسال كتابين إلكترونيين عن القراءة (التغيير بالقراءة) و (الدافعية للقراءة) على شكل هدية رمزية يتهادى بها الأساتذة فيما بينهم، مستخدما رسالة تحفيزية مثيرة، فكانت النتائج مخجلة ومؤسفة جدا، فقد رد (4% ) من الأساتذة (البروفيسورات) – فيهم تلميذين سابقين  له- بردود مخجلة ومقذعة مليئة بعبارات الإسفاف والبذاءة والشتم  والإهانة.. لا تصدر عن مجرمي ومعتادي السجون والإجرام في ساعات الليل المتأخرة جدا بين الساعة (الواحدة والرابعة فجرا). فيما تفاعل (2% ) من الأساتذة فقط معه، وشكروه على هديته الإلكترونية ووعدوه بقراءتها والاستفادة منها. ورد عليه (10% ) من الأساتذة بهاتف يطيبون به خاطره عن الشتائم التي لحقت به. فيما سكت وصمت (84% ) من الأساتذة ولم يبد منهم أي فعل، غير ردود أفعال صبيانية صدرت من بعضهم  لا تليق بمن يحمل هذا اللقب، الذي انحط في زمان أوان ذهاب العلم.

  هذا اللقب الذي لا يُنال في بعض الدول إلاّ بعد أن يبلغ صاحبه السبعين أو الثمانين من العمر، فقد التقيت في مؤتمر المجمع الفقهي بمكة المكرمة أيام 19-21/03/2017م مؤخرا أستاذا سودانيا بلغ من العمر ثلاثة وثمانية عاما (83) فأخبرني أنه تمت ترقيته إلى هذه الدرجة منذ ثلاث سنوات، وتذكرت قول الشاعر الأندلسي وهو يقول:

مما يزهدني في أرض أندلس ** ألقاب معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها ** كالهر يُحاكي انتفاخ صولة الأسد.

 فهل من مدرك؟ أم على قلوب أقفالها؟ 

 

* أكاديمي وباحث جزائري في الفكر الإسلامي 

 
يمكنك الوصول للخبر بسهولة عن طريق الرابط المختصر التالي:
https://alssehafi.org/?p=12815

شاركنا بتعليق








لا يوجد تعليقات بعد



 تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة

تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة ..... المزيد

 المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات

المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات ..... المزيد

 ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم

ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم ..... المزيد

 “الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف

“الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف ..... المزيد

 سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024

سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024 ..... المزيد

 التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية

التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية ..... المزيد

 ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة

ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة ..... المزيد

 البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية

البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية ..... المزيد

 أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري”

أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري” ..... المزيد

 أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع

أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع ..... المزيد

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com