عناوين الأخبار

أوان الاستجابة الحضارية

الثلاثاء 13 شعبان 1438هـ 9-5-2017م       -       09:15:49 ص
أوان الاستجابة الحضارية

أ. د. أحمد محمود عيساوي 

 

القرآن الكريم كله قيم ومبادئ وقواعد ربانية خالدة، ففيه أودع الله سبحانه وتعالى كل التعاليم والتوجيهات والإرشادات والأوامر والنواهي الصالحة للحياة الطيبة. وكذلك الأمر نفسه بالنسبة للسنة النبوية المطهرة، ففيها خَطَّ ووضَّحَ وبيّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج السير والاتجاه الصحيح، وبها وفيها بيَّنَ طريقة العمل القويم، وخلاصة النجاة والنجاح في الدارين. وحياة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومعاشهم وثقافتهم وأخلاقهم وأدبهم وسيرتهم مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم السجل الصادق لتلك الحياة القويمة والكريمة والناجحة المُودعة في القرآن والسنة. وكذلك سيرة ومنهج وأخلاق أبنائهم وجيلهم من التابعين وتابعيهم بإحسان ومن سار بهديهم وبهداهم ومنهجهم إلى يوم الدين.

  فكل هذه الأطر المرجعية  أثبتت نجاعتها وكشفت عن قدراتها العملية في الريادة الحضارية، خلال مسيرة الحضارة العربية الإسلامية الممتدة لقرون، متجلية في المنتج الإسلامي العالمي المتنوع والمتفوق، المسمى اليوم في مصادر التاريخ والفكر والأدب والحضارة والثقافة بـ (الحضارة العربية الإسلامية) في الشرق والغرب الأندلس.

  إذن فما عندنا – نحن المسلمين اليوم- من قيم وأطر مرجعية كلها صادقة ومطلقة الصوابية من حيث المخزون والينبوع الرباني قال تعالى في سورة فصلت:{..وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ومن حيث المنهج النبوي قال تعالى في سورة الحاقة : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } ، فكله أصيل وثابت وخالد وصالح وعملي وواقعي وناجع، ولكن لا يكفيه ذلك كله ليتسرب إلى نفوس وقلوب وعقول المدعوين، فكم من فكرة أصيلة أو قيمة أصيلة أو قاعدة صادقة أو مشروع ناجح.. لا يجد من يؤمن به، أو من يطبقه، أو من ينصره، أو من يُعرِّف الناس بصلوحيته ومنفعته، فضلا عن من يتحمس له، أو يضحي ويموت من أجله، كما فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك أجيال التابعين وتابعيهم بإحسان.

وبمقابل ذلك نرى الكثير من الأفكار والمشاريع والديانات المحرفة والمزيفة وغير الأصيلة، بل القاتلة والميتة والمميتة والفارغة.. تجد من يقدسها ويتحمس لها ويطبقها ويدافع عنها، بل يجعلها تأخذ صفة القداسة والاحترام لتنال حظها من توجيه وحكم البشرية، كالرأسمالية والقومية والعقلانية والواقعية.. وغيرها من الفلسفات الإلحادية كالحداثة وفلسفة ما بعد الحداثة، وخرافة النهايات.. فما السر في تراجع الأصيل وتصّدُرِ المزيف؟ ومتى تكون لحظة وأوان الاستجابة الحضارية التي حصلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؟ وإلى ما تحتاجه الفكرة الأصيلة والمقدسة من زمن وجهد لتتصدر المشهد وتُزيح الظلم والزيف والضلال، وتقود البشرية الضالة؟

إن ذلك لن يحصل ولن يكون أبدا، إلاّ لحظة تحقق أوان الاستجابة الحضارية في الأنفس والآفاق والكون، فماهي لحظة وأوان الاستجابة الحضارية؟ وما هي متطلباتها ومكوناتها؟ وماذا تحتاج تلك اللحظة الحاسمة من مستلزمات ضرورية لحصول لحظة التفاعل القيمي المطلق مع الأنفس الحائرة الباحثة عن الحقيقية والانطلاق الفطري؟

* أوان الاستجابة الحضارية:

إذن فما بين أصالة وخلودية القيمة أو الفكرة، وبين اعتناقها والتحمس لها، والإيمان والاندفاع للعمل بها، والتضحية من أجلها.. عملية أخرى لا علاقة لها بأصالة أو زيف وخداع الفكرة أو القيمة. فكم من فكرة أو قيمة أو اكتشاف أو اختراع مهم وعظيم ظل حبيس قرون طويلة من النسيان أو العطالة لامتناع توفر المستلزمات والأسباب الموجبة والموجدة، حتى تسنت لها لحظة الطفرة والانفجار العظيم، لتجد عقلا واعيا ومتحررا – من كل الأوثان والأصنام والأشخاص- يفهمها ويدرك فوائدها، ثم يؤمن بها ويطورها، ويتفاعل معها، ويتسامق بعقله المتحرر وقلبه المتنور وروحه الجميلة للتطاول إلى سقفها المرفوع، ثم لينداح بها على واقع نفسه والحياة والناس فيفيد البشرية بها.

   فـ (جابر بن حيان 737-813م/ 119-197هـ ) كان شغله الشاغل التفاعلات الكيميائية التي تحصل بين المواد والجزئيات، وقد أفنى عمره في سبيل تحويل مادة الإكسير إلى ذهب، ومات عن فكرته في بداية القرن الثاني الهجري التاسع الميلادي التي انتعشت بعد قرون في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي مع العالم النمساوي (غريغور يوهان مندليف 1823-1884م) مكتشف جدول المعادن، المسمى بجدول مندليف، فاحتاجت الفكرة إلى عشرة قرون لتتوفر لها أسباب التطبيق. وهذا (ابن النفيس 1213-1288م 607-687هـ) أيضا يكتشف الدورة الدموية الصغرى في القرن الثالث الهجري الثاني عشر الميلادي، وتظل الفكرةُ الاكتشافُ حبيسة المصنفات حتى يأتي بعد أربعة قرون العالم السويدي (هارفي 1578-1657م) ويطورها.

وكذلك (ابن الهيثم ولد 965م) الذي اكتشف فكرة التصوير الفوتوغرافي في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، ولكن الفكرة ظلت خامدة طيلة قرون حتى جاء الإخوة (ليميير) بفرنسا أواخر القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر ليطورا الفكرة ويصنعا آلة وجهاز الكاميرا الفوتوغرافية، فكم احتاج العالم من مدد زمنية حتى جاء أوان الاستجابة الحضارية، فقد احتاج العالم إلى عشرة قرون لتطوير فكرة أصيلة، لم يتوفر لها من المعطيات الضرورية لكي تجد طريقها للتنفيذ.  

 ولنا أن نتساءل عن المدة الزمنية التي احتاجها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للوصول إلى مرحلة ونقطة الطفرة الحضارية، التي استطاع من خلالها تفتيق الطاقة وتحريرها من إسارها وقيودها الوثنية ومُثبطاتها الوثنية القاتلة؟ وبمقابل هذا السؤال نتساءل كم احتاج سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام من الوقت ليتوجه إلى الله بدعائه المُبير على قومه حين جأر صارخا ؛قال تعالى في سورة نوح : { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}

 إننا عندما نطرح مثل هذه التساؤلات المركزية على أنفسنا وعلى نخبنا المثقفة ولاسيما الدعوية والفقهية والثقافية والإعلامية والأدبية منها، نكتشف جملة من الحقائق التي يجب ألاّ تغيب عنا أبدا ونحن نمارس – بوعي وحب وجمال- عملنا الفكري والثقافي والفقهي والدعوي والتربوي والأدبي والإعلامي، فنستجمع من خلال عملية التفكير الواعية بأسس وأس العملية برمتها، ونعلم أن الكثير من الأفكار غير الأصيلة دلفت إلى صفحات التاريخ من النوافذ وسيّرتْ أمما وبشرا عوض الأفكار الأصيلة والمشاريع الخالدة، وهنا يجب على النخب الواعية أن تُدرك أنه لا يكفي أن تكون الفكرة أو القيمة أو المشروع أصيلا ومتميزا فحسب، بل يجب أن تتوفر جملة من المعطيات الأساسية هي: ( الفرد المؤهل عقليا ووجدانيا وسلوكيا وجسديا، البيئة الزمكانية المساعدة، الطفرة الوجدانية الزمنية المناسبة).

إن البحث في هذه الإشكالية يقتضي منا البحث والتقصي في موانع الاستجابة الحضارية التي نرزح تحت نيرها منذ سقوط دولة الموحدين بالغرب الإسلامي سنة634هـ 1236م، وسقوط دولة الخلافة العباسية ببغداد سنة 656هـ 1258م إلى اليوم، فهل بحثنا ونقبنا عن موانع الاستجابة الحضارية؟ وهل استقصينا بمنهج علمي دقيق وصارم أوان الاستجابة الحضارية؟ أعتقد لا، لأننا لا نملك نخبة جامعية أصيلة، فالزيف والتزوير غطى حياتنا كلها.

* أكاديمي وباحث جزائري في الفكر الإسلامي 

 
يمكنك الوصول للخبر بسهولة عن طريق الرابط المختصر التالي:
https://alssehafi.org/?p=12457

شاركنا بتعليق








لا يوجد تعليقات بعد



 تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة

تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة ..... المزيد

 المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات

المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات ..... المزيد

 ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم

ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم ..... المزيد

 “الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف

“الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف ..... المزيد

 سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024

سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024 ..... المزيد

 التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية

التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية ..... المزيد

 ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة

ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة ..... المزيد

 البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية

البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية ..... المزيد

 أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري”

أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري” ..... المزيد

 أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع

أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع ..... المزيد

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com