مقاربة تحليلية لاستعادة دور المعلم 2
أ.د. أحمد محمود عيساوي
نحب أن نقدم لمحة تاريخية وصفية موضحة أصل وبدايات وتداعيات مشكلة انهيار الدور القيمي لصاحب المقام الرفيع (المعلم)، لما في ذلك من أهمية في تجلية الصورة جيدا، وفي تشخيص الأسباب الحقيقية بشكل أكثر دقة وموضوعية ومنهجية وحيادية.
* انهيار قيمة المعلم في العقدين الماضيين:
عرفتْ الجزائر صحوة ونهضة علمية ومعرفية وتربوية وتعليمية بُعيد استقلالها، والتي كانت امتدادا طبيعيا ومنطقيا للنهضة التعليمية والتربوية والعلمية التي اضطلع بها العلامة الشيخ (عبد الحميد بن باديس ت 1940م) – ومن معه – باعث النهضة العلمية والدينية في الجزائر الحديثة منذ عودته من جامع الزيتونة سنة 1913م، والذي انتقل من النشاط الفردي الذاتي إلى أن وسَّع نشاطاته وكثَّفَها مع إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م، والتي إنْ وُصفتْ وقُيِّمَتْ نشاطاتُها فإنها تُختصر وتُميز بتلك الهبة الإصلاحية والتربوية والتعليمية والدينية التي فاقت المتوقع الاستعماري والوطني معا، من حيث: إنشاء وبناء المدارس والمساجد والنوادي الفكرية والأدبية والفنية والثقافية وإنشاء المطابع والصحف والمجلات..، ومن حيث كثرة عدد التلاميذ والأساتذة، والتي تُوِّجَتْ ببناء (معهد عبد الحميد بن باديس) بقسنطينة سنة 1947م، والذي أغلقته الإدارة الاستعمارية سنة 1957م، وأُعطيت للمعلم بُعيد الاستقلال قيمة ومكانة كبرى، ومُنح الأفضل في سلم الأجور والامتيازات، وظل مستمرا في تأدية وظيفته المقدسة التي ورثها عن شيوخ جمعية العلماء التي أفنتْ جهدها في النهضة العلمية والتعليمية والدينية، وأدرك جيلي شيوخ ومعلمي مدارس جمعية العلماء وأخذ وورث منهم الكثير من الخط القيمي الذي تميزوا به أثناء جهادهم التعليمي والتربوي، وشهد السنوات التي بدأوا يكبرون ويتقاعدون ويغادرون المدارس والمساجد فيها نحو عالم الرضوان مخلفين وراءهم جيلا باديسيا عتيدا آثر الصحوة الإسلامية والنهضة الوطنية بالمشروع الحضاري العربي الإسلامي الذي عادته القوى الاستعمارية الخفية في دواليب السلطة الجزائرية.
وحصل أن تنكبت السلطة الجزائرية عن مواصلة مشروعها النهضوي والحضاري الشامل، وكان من بين مفرداته ومكوناته المنظومة التربوية، وبدأت عمليات الشد والجذب بين التوجهين العربي والاستعماري يبدو جليا مع مجيء وزير التربية (مصطفى لشرف) سنة 1977م ذي التوجهات الفرنكوفونية، وبدأت السلطة الجزائرية تتنصل من التزاماتها حيال المشروع الحضاري العربي الإسلامي الجزائري الأصيل الذي كان – ومازال وسيبقى- حلم وأمل وتطلع الشعب الجزائري الأصيل منذ بيان أول نوفمبر 1954م إلى اليوم، وأدارتْ بوصلتها نحو المستعمر الجديد وقيمه التربوية والاستعمارية البغيضة والغريبة عن قيم ومسار وتوجه هذا الشعب الأبي.
وظلت المنظومة التربوية تحت تأثير الصراعات الإيديولوجية بين القوى واللوبيات والعصبات داخل مكونات السلطة، وراوحتْ عمليات الشد والجذب بين المشروعين الاستعماري والوطني، الذي عرف شيئا من الانتعاش في عهد الرئيس الراحل (الشاذلي بن جديد ت 2014م) بتولية بعض وزراء التربية ذوي التوجه العربي الإسلامي كـ (محمد العربي ولد خليفة) كاتب الدولة للتعليم الثانوي والوزير المتميز (علي بن محمد)، اللذين فعَّلا ونشَّطا المشروع التربوي الوطني على حساب المشروع الاستعماري لعقد من الزمن، وانتهى أمر آخرهما بفضيحة البكالورية سنة 1992م، والتي آذنت يومها بنفض السلطة يدها نهائيا من المشروع الحضاري العربي الإسلامي، ضامنة للقوى الاستعمارية – إن أيدتها في البقاء في هرم السلطة- أن تمنحها وتربي لها جيلا غير الجيل الذي رأوه وشاهدوه يناصر ويدافع عن المشروع الحضاري العربي الإسلامي، جيل هزيل ومشوه لا يهدد أوربا بالأصولية والتشدد حسب زعمهم.
وبعد الإطاحة بالخيار الديمقراطي سنة 1992م والذي كان عماد نجاحه رجال التربية والتعليم من غير منازع ولا مدافع، والذين استبسلوا وتحملوا وبذلوا جهودا جبارة من أجل نجاحه سنتي 1990-1991م واستبداله بالخيار وبالمشروع الاستئصالي الدكتاتوري الفاسد، انبرى المعلمون والأساتذة ورجال التربية حتى المتقاعدين منهم لحماية هذا المشروع الحضاري الأصيل والدفاع عنه بكل أشكال الممانعة السلمية كالعصيان والتظاهر والاعتصام والاحتجاج والإضراب.. والذي أفضى بهم في نهاية الأمر أن قادهم الراحل (محمد بوضياف ت 1992م) رئيس المجلس الأعلى للدولة إلى الطرد والتوقيف عن العمل، بَلْهَ قاد الآلاف منهم إلى السجون والمعتقلات الفظيعة وإلى عمليات الخطف والتعذيب والإخفاء.. حتى فرغت الساحة التربوية من ذلك الجيل القيمي والأخلاقي الأصيل، وحصل الفراغ في المنظومة التربوية التي بدأت تعرف الانهيار القيمي بفضيحة تسريب أسئلة البكالورية سنة 1992م، والتي استقال جراءها الوزير المحترم (علي بن محمد) من منصبه، وترك الوزارة لغلاة الشوفينية الفرنكوفيلية لتعبث بمستقبل الأجيال الجزائرية مع مجيء الوزير (أبو بكر بن بوزيد)، وصرنا نستقبل طلابا في السنة الأولى جامعية لا يعرفون كتابة فقرة صحيحة وخالية من الأخطاء، وتخرج هذا الجيل المهزوز والضعيف في عهد (المجلس الأعلى للدولة) وحكومة (اليامين زروال) وبدأ يملأ المدارس والمتوسطات والثانويات، إلى أن وصلنا إلى هذه الحالة المزرية (2000-2016م)، بالرغم من تشكيل ثلاث لجان إصلاحات (لجنة عمر صخري 1997-1998م) ولجنة (بن علي بن زاغو 2005م) ولجنة (نورية بن غبريط رمعون)، والتي كانت في حالة شد وجذب بين المشروعين التربويين الوطني والاستعماري، أفضت في نهاية الأمر إلى غلبة المشروع التربوي الاستعماري على الوطني، بهدف تخضيع الشعب الجزائري لفرنسا الامبراطورية الاستعمارية الأم، والتي مازالت تطمح لاستعادة مجدها الاستعماري ضمن المجموعة الفرنكوفونية المُخَضَّعَةِ والتي مازالت الجزائر الحرة والأبية وأجيالها الطاهرة النقية، والتي تشكل واسطة العقد لم تنتظم بعد في هيكلة المشروع الاستعماري الإمبراطوري القادم سنة 2050م.
ومن هنا بدأ المعلم يفقد مكانته المحترمة والمقدسة من المجتمع، والتحق بمنصب المعلم كل من هب ودب، بعلم وإذن ومباركة أشلاء السلطة التي تبحث عن الشرعية؟؟
ومع هذا الجيل الوضيع والضعيف من المعلمين ممن تخرج من منظومة الهُزال التربوية والجامعية أيضا والتي كان ومازال يسيطر عليها غلاة الشيوعيين الفرنكوفيليين، بدأت القيم تنهار، ولم يعد المعلم هو وريث معلمي وشيوخ جمعية العلماء، الذين كانوا يتصفون بكل صفات الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين عليهم رحمات الله وصلواته وفضله.
وبعد أن كان المعلم، وكنت واحدا منهم سنوات (1982-1992م) يعمل بإخلاص وتفانٍ وشفافية وصدق، يُعلم ويؤدب ويربي، ويبذل ويضاعف الجهود، ويكتفي بأجره وعلاواته فقط، ويرى التلميذ أمل ومستقبل الأمة الجزائرية، وحلمها وتطلعها إلى النهضة والتنمية والحرية والاستقلال.. صار المعلم الجديد الذي خرجته مدرسة (أبو بكر بن بوزيد) ومن على شاكلته يرى التلميذ مصدر ربحه وثرائه وبحبوحته المالية، وطريقه لبناء المنزل الفخم والسيارة الفارهة والعطلة المتميزة على شواطىء البحار، وجيبه الذي سيحقق له العيشة الهنية والألبسة الفاخرة، عبر تحوله إلى مصاص لدماء التلاميذ الفقراء والأغنياء معا، عن طريق الدروس الخصوصية الُمكلفة جدا.
ولم تعد الدروس والتمارين والحلول تبدأ وتنتهي في القسم الدراسي، ولم تعد أيضا كل النشاطات تبدأ وتنتهي في المؤسسة التربوية كما كنا في العقود السالفة 1982-1992م ، وصار غالبية هؤلاء المعلمين والأساتذة يعتبرون المؤسسات التربوية أماكن وساحات وفضاءات وأسواق لاصطياد الزبائن الدسمين وتحويلهم لجمعيات الارتزاق، وصاروا سماسرة في عوالم البيع والشراء والمقايضة الرخيصة والتبادل القيمي الهزيل، وغودرت الأقسام نحو مرائب ومنازل ودكاكين تُسمى مدارس خصوصية، مقابل دورات يُدفع مقابلها مال باهظ هو ثروة حرام لا يبارك الله فيها، وجراء هذا الانهيار الأخلاقي والقيمي انهدم وانخرم هذا الصرح النبوي والتربوي الكبير، وصار المعلم الجديد لاهثا وناهبا لجيوب الطلاب.
وما يجب علينا أن نوضحه هنا وفي إطار توضيح صلب مشكلتنا، وفي سياقها ومسؤوليتها الوصفية والتاريخية والقانونية والمنهجية، ودون أن نُخدع بدموع تماسيح السلطة الكاذبة التي تتقن فن التنصل واللاعقاب، وهي تتباكى كذبا ودعاية عن انهيار وضعف أداء المنظومة التربوية وهي المتسببة في كل ما جرى لها، وأتمنى أن تكون صحوة ضمير حقيقية، وليست حقنة تحشيدية لإطالة عمر النظام ليجثم عقود ظلم أخرى على كاهل هذا الشعب المقهور، وهي ليست أيضا من باب المحاكمة أو الجلد، بل هي من باب المساءلة الواجبة لأولي الأمر، حتى لا يعبثوا ويرقصوا عقودا كما عبثوا وثملوا على أجسادنا، ثم في النهاية يلقون مسؤولية فسادهم وفشلهم وتقاعسهم وخطئهم الفادح على عاتق الشعب المسكين.
ومن هنا وجب علينا أن نجأر بصوت عالٍ ونقول: إن السلطة الجزائرية منذ انقلاب 1992م إلى اليوم 2016م هي المسؤولة أولا وأخيرا عن تردي أوضاع الجزائر وغرقها في مستنقعات الفساد وبِرَكِ المفسدين، ومنها مكانة المنظومة التربوية عموما والمعلم خصوصا، لأنها هي المتسببة في حالة التدمير القيمي الدائم والهائل والمستمر لجسد هذه الأمة الجزائرية المثخنة والمنكوأة بالجراح إلى اليوم، وللأسف فإنها لم تتب من آثامها إلى حد الساعة، فهذا التردي القيمي الذي نراه ونشاهده ونقرأ عنه لا يعالج بمثل هذه الرعونات الإعلامية ولا بمثل تلك الشطحات البرلمانية والقانونية، بل عبر قراءات وتحليلات وخبرة أهل الاختصاص الصادقين والغيورين والوطنيين.
والسؤال المركزي والمحوري هنا، والذي يجب أن يُطرح بقوة ووضوح هو : كيف سنستعيد هذا الدور المفقود؟ وكيف يمكننا أن نعود بقيمة وقداسة صاحب المقام العالي (المعلم) في ظل ظروف وأوضاع داخلية سيئة جدا وهيمنة خارجية مُذلةٍ وبادية للعيان؟
وقد بدا لي أن الإجابة على هذا السؤال أكبر بكثير من أن تكون محاولة فردية أو مقاربة شخصية، بل إنها تحتاج إلى خلاصة المخلصين في حقل المعرفة والتربية والأسرة والمجتمع والدين، إنها تحتاج إلى رؤى الطاهرين من أهل العلم والميدان، حيث الوضوح والصفاء في التصور والرؤية والتشخيص والتحليل والمعالجة، ولكن لا أُعفي نفسي من عرض بعض التصورات المَعْلَمِيَّةِ لترسم بعض معالم الطريق، ولعله يوجد عندي شيء من معالم الطريق أقدمها لاستعادة الدور، ولعل أهمها الآتي:
1 – وضع مدونة تاريخية وصفية لواقع المنظومة التربوية منذ الاستقلال إلى اليوم، يقوم بإعدادها أساطين الفكر التربوي الجزائري لفرز الجميل والحسن من الرديء والخاطىء.
2 – معرفة مواطن وبواطن الخلل بموضوعية ووضوح وحيادية.
3 – معرفة الاستراتيجيات والمقاربات المعتمدة في عمليات التقييم.
4 – وضح مدونة مَعْلَمِيَّةٍ واضحة لمنطلقاتنا ووسائلنا ومناهجنا وأهدافنا الخاصة والعامة ولغاياتنا أيضا.
5 – الاستفادة من تجارب الأمم الناهضة في حقل التربية والتعليم كألمانيا واليابان اللتين ترتبان المعلم في أعلى التصنيفات.
6 – وضع خطة استراتيجية وطنية لآفاق القرن الواحد والعشرين، تُعزز بالتنفيذ والمتابعة والتقييم والتقويم.
* أكاديمي وباحث جزائري في الفكر الإسلامي
تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة ..... المزيد
المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات ..... المزيد
ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم ..... المزيد
“الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف ..... المزيد
سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024 ..... المزيد
فهم ما يجري في المنطقة من اضطرابات
صدقة يحيى فاضلمجتمعنا بحاجة لمؤسسة تعزيز الصحة
الدكتور عبدالرحمن القحطانيهل بدأ اليوم التالي في المنطقة؟
حمود أبو طالبالبريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل ..... المزيد
التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية ..... المزيد
ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة ..... المزيد
البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية ..... المزيد
أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري” ..... المزيد
شاركنا بتعليق
لا يوجد تعليقات بعد