من ذكرياتي في التدريس
عشت سعيدًا معهم!
كان طالبًا مرِحًا ظريفًا
محبوبًا من زملائه على الرغم من
سخريتهم بأنفه
الذي كان يستولي على معظم
تفاصيل وجهه البريء!
لكنه كان واسع الصدر لايضيق
بسخريتهم!
خصوصا بعد أن ذكرتُ
لهم قصة ( بني أنف الناقة)
وهم قوم كانوا يأنفون
من لقبهم هذا
حتى مدحهم الحطيئة بقصيدة
طويلة جاء فيها :
قـومٌ هــمُ الأنــفُ والأذنــاب
غيـرهـمُ
و مـنْ يسـوِّي بأنـف الناقـة ِ
الذّنـبـا
فأصبح بنو أنف الناقة يعتزون
بلقبهم ويفاخرون!
مع أن أنفهم هو هو!
ولم يجروا له أية عملية تجميلية!
سبحان الله!
أعود إلى ذلك الطالب
فبالإضافة إلى شخصيته
الظريفة
فقد كان سمينًا جدًا
فعندما يجلس على الكرسي
فإن شحومه وترهلاته تتدلى
من طرفي الكرسي!
لأول مرة أراه جالسًا
منطفئًا حزينًا شاردًا
كأنما هو جسدٌٌ بلا روح!
– سلمان مابك؟
– لاشيء يا أستاذ!
– لا لا أنت اليوم في وادٍ أخر!
بعد انتهاء الحصة
وبداية الفسحة لحق بي!
– أستاذ راشد:
لا أدري ما أقول لك!
– تكلم يا سلمان !
-تعطيني وعدًا ألا تخبر أحدًا
نعم!
يا أستاذ : أنا أحب!
صار لي قلب يعشق ويحب!
أحب فتاة!
يعني أعشقها!
يعني أموت فيها!
نظرت إلى وجهه وأنفه الكبير
وتذكرت قول الشاعر:
خبَّرتُها أني محبٌٌ لها
فأقبلتْ تضحك من منطقي
قالتْ لها قولي لهذا الفتى
انظر إلى وجهك ثم اعشقِ
يا سلمان ستكون عالة على
العُشَّاق!
-يا أستاذ أنت تسخر مني وأناجادٌٌ!
أقسم لك لقد تعرفت على فتاة
عن طريق الهاتف!
ساعتها دارت بي الأرض
ولم أعرف بم أرد!
وبعد أن عاد إليّ وعيي!
قلت له: ليتك تذهب إلى المرشد
الطلابي ليحل مشكلتك!
فأنا لن أفيدك بشيء!
يا أستاذ راشد: المرشد سيعاقبني
بإيقافي ثلاثة أيام!
كأني فعلت جريمة!
أرجوك يا أستاذ ساعدني!
ولسان حاله يقول:
ولابُدَّ من شَكْوَى إِلى ذي مُروءَة ٍ
يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أو يَتَوَجَّع
أرجوك ساعدني
نيران العشق تحرق فؤادي!
أنا لا أنام الليل!
ليتك تراني وأنا أتقلّب في في
سريري
وكأن به شوك!
-وأنا أقول في نفسي:
مسكينٌٌ سريرك!
– يا أستاذ: همساتها الساحرة
فجرت براكين الهوى في قلبي!
أحس بألحانها تخفق
في أعماقي مثل طائر صغير!
مذ سمعتُ صوتها وأنا
لم أهنأ بأكل أو شرب!
– وأنا أقول في نفسي:
( هذا المكسب الوحيد من الحب
لعلك تخفف هذه الشحوم)
– يا أستاذ ليلي الذي عرفته
بالقصر!
صار طويلا بالعذاب
والأوجاع والآهات٠٠٠
صرت أقضي ليلي
كله وأنا أنتحب حرقة!
وأضجُّ لوعة وأنينا٠٠
وأنا أقول في نفسي:
ماهذه البلوى ؟
– يا أستاذ راشد
أنا صرت أقضي ليلي كله
وأنا أنتحب حرقة!
وأضجُّ لوعة وأنينا!
– توقف يا سلمان أرجوك هذا
موضوع رخطير وحساس!
ولا سيما أني لم أمر
بمواقف عاطفية!
أيضًا نحن المعلمين بناة الأخلاق
لا هادميها!
هل ترضى يا سلمان
أن يكلم شابٌٌ غريبٌٌ أختك؟
– يا أستاذ: أنا قصدي شريف!
– كيف شريف؟
– يا أستاذ أنت تعرف والدي
( وهو يقدرك )
كلّمه يخطبها لي أو على الأقل
يحجزها؟
– والدك يقدرني كمعلم
وليس ( خطّابة!)
يا سلمان صدقني هذه
خواطر مراهق
وسوف تضحك منها إذا كبرت!
– يا أستاذ: أنا ما أسمع صوتها
إلا ويرقص فؤادي طربًا!
همساتها أحلى الألحان وأجملها!
تأتيني لحظات أتخيلها مثل
الظبي وأحلى!
مثل القمر بل
والله أجمل!
إني أسمع في قلبي
صدى ألحانها!
ما أسعد سماعة الهاتف عندما
تلامس شفتيها!
– يا سلمان يظهر لي أنك جُنِنت
لكني تذكرت قول المتنبي:
لاتعذل المشتاق في أشواقه
حتى تكون حشاك في أحشائه
حاولت أن أن أخفف عليه
بالمزاح والدعابه!
– لكنك سمين جدًا يا سلمان!
وعادة العشاق أنَّ أجسادهم هزيلة
وهم مساكين كالهياكل
العظمية!
أما سمعت قول بشّار بن برد :
إن في بُردٓيَّ جسمًا ناحلاً
لو تؤكاتِ عليه لانهدم
– يا أستاذ :
أنا قلبي هو الذي يعشق
ويتعذب ولم يخبر جسمي بعد!
– الله الله !
لقد ذكرتني بقول الشاعر:
وقائلة مال لجسمك لايُرى سقيمًا
وأجسام المحبين تسقمُ
فقلت لها قلبي بحبك لم يُبِح لجسمي
فجسمي بالهوى ليس يعلمُ
رأيت دمعة تنحدر على خده
وتبعتها دمعات!
فانفطر قلبي شفقة عليه!
فقلت قد يكون صاحب كتاب
تُحفة الظَّراف
مُحقاً عندما قال:
(العشّاق معذورون على كل حال
مغفورٌٌ لهم جميع الأقوال والأفعال!
لأنهم يفقدون عقولهم!
وهذا العشق ليس باختيارهم! )
– يا سلمان :
دمعاتك هذه لعل فيها
الشفاء من هذا الداء!
أما سمعت قول الشاعر:
علّ ماء الدموع يُخمِد نارًا
من جوى الحب أو يُشفي غليلا
يا سلمان – هداك الله-
ماذا تريد مني الآن؟
– أريد أن تكتب لي بعض
أبيات الغزل!
– لا لا هذا مستحيل!
– أرجوك يا أستاذ
والله قصدي شريف!
ثم انحدرت دموعه
فتعاطفت معه!
– حسنا يا سلمان اذهب
إلى المكتبة
وابحث عن ديوان كُثّير عزة!
ذلك الشاعر الذي كدت أحفظ
ديوانه
أيام دراستي في الجامعة!
وابحث في الديوان عن قصيدة
بعنوان:
الزفرات القاتلة!
التي فيها:
ولا تيأسا أنْ يَمْحُوَ الله عنكُما
ذنوبًا إذا صَلَّيْتما حَيْثُ صَلّتِ
وما كنتُ أدري قبلَ عَزَّة َ ما البُكا
ولا مُوجِعَاتِ القَلبِ حتَّى تَوَلَّتِ
وأرجوك ألا تُخبر أحداً بهذا!
– شكرًا يا أستاذ وفي ميزان
حسناتك!
ثم ذهبت وتركته في زفراته
وعبراته!
وبعد أسبوع تقريبًا رأيته
في الساحة
و في يده اليمنى سندوتش
( يعرُمُها)
وفي يده اليسرى علبة ببسي
كبيرة!
يشفطها!
– ماشاء الله يا سلمان!
رجعت للأكل والبطش
بالسندوتشات!
نعم يا أستاذ!
تفضّل!
( قالها بصعوبة
لأنَّ فمه قد امتلأ ٠٠)
– شكرًا لك !
لكن ماذا حصل؟
– يا أستاذ لقد ( تخرفنت!)
قالها وهو يبتسم
– يعني ماذا تخرفنت؟
– يا أستاذ يعني الذي كان
يكلمني شاب
من شباب الحارة يُقلِد صوت
بنت!
وقد سجّلوا كل المكالمات
ليضحكوا عليَّ!
فضحكتُ حتى وضعت
طرف شماغي في فمي
من شدة الضحك!
يا أستاذ والله لن أتركهم
حتى أخرفنهم كلهم!
– طيّب يا سلمان ليتك تخبر
الطلاب
أن درس الأدب غدًا
سيكون عنوانه :
قصيدة أبو البقاء الرندي
في رثاء الأندلس!
وسوف أُبيّن لكم كيف
قام النصارى بخرفنة
المسلمين!
فضحك سلمان حتى
دمعت عيناه!
* معلم لغة عربية بثانوية حي الشفا سابقاً ١٤١٧ هـ
يا سقى الله تلك الأيام!
شاركنا بتعليق
لا يوجد تعليقات بعد