عناوين الأخبار

مشكلة التخلف والوعي المنشطر

الثلاثاء 19 ربيع الثاني 1438هـ 17-1-2017م       -       06:18:47 ص
مشكلة التخلف والوعي المنشطر

د.أحمد محمود عيساوي

 

* إشكالية التخلف :

شكلت مسألة التخلف الحضاري هاجسا مقلقا لدى المستنيرين من جيل النهضة العربية الحديثة ، كما شكلت قضية اليقظة والنهضة وتحقيق الوثبة الحضارية بكل مكوناتها وعوامل نجاحها سؤالا استراتيجيا ومحوريا رئيسا لدى سائر المشتغلين بقضايا الفكر والثقافة والأدب والفلسفة والسياسة والتاريخ والاجتماع من جيل النهضة وممن تبعهم حتى كتابة هذه السطور .

وقد عزا الدارسون والباحثون إشكالية التخلف لمجموعة من العوامل الفاعلة التي – بحسب قراءاتهم – تنخر تركيبة الفرد والجماعة والمجتمع والكيان : العقلية والوجدانية والسلوكية والإنجازية الحضارية ، فيفقد الانسجام والتناغم التواصلي في شبكات تعاملاته وعلاقاته الاجتماعية اليومية الحياتية الأفقية والعمودية .

وقد استند الدارسون والمهتمون بقضايا النهضة والوثبة الحضارية إلى خلاصات من سبقهم في هذا المجال ، فاعتمد فصيل منهم إلى ما ذهب إليه العلامة المؤرخ ( عبد الرحمن بن خلدون ت 1408م ) في مقدمته الشهيرة حين راح يبين عوامل السقوط الحضاري ، فرأى أنها : ((  مرتبطة بالانغماس في الترف والغرق في النعيم ، وتخييم الذل والانكسار على المترفين، وعدم التنافس في الخلال الحميدة ، والاستغناء عن توحيد مجموع القوى ، وزيادة الترف في بداية الدولة فيزيدها قوة ، ثم ينقلب عليها فيصير لها ضعفا ويمهد لزوالها ، وأن العصبية هي عصبة تأسيس الملك والاستغناء عنها دليل استمرارها وقوتها والاعتماد عليها مؤذن بزوالها ، ومكانة الدعوة الدينية في قوة واستمرار الملك والرغبة عنها مؤذن بزوال ملكها ، ثم الظلم ومنع الناس من العيش في ظل الكرامة والمساواة والعدل والعيش الكريم ..  )) ( انظر : ابن خلدون ، المقدمة ، دار الفجر للتراث ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1425هـ 2004م ، ص 184 .. )  

وقد ساق بعضهم الأسباب نفسها التي أودت بسقوط دولة المرابطين والموحدين والمرينيين والحفصيين والزيانيين ومملكة غرناطة وبني عبد الواد .. نلخصها فيما يلي :

1 – ظهور روح الدعة والترف ، والانغماس في الملذات والشهوات ، فتحقق فيهم قوله تعالى : [ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ] ( الإسراء : 16 ) .

2 – انحطاط وضع المرأة وانتشار الفساد والرذيلة في مربية وُمعّدة الأجيال ، فيتفكك جراء ذلك الفرد وتنحل الأسرة وينهار المجتمع .

3 – جور السلاطين وظلمهم وابتعادهم عن الشورى والعدالة والمساواة وعن القيم الفاضلة ، وترطهم وإهمالهم لشؤون الرعية .

4 – ضيق الأفق الفكري والحجر على العقول وإيقاف حركة التفكير والتعبير الصحيح .

5 – الفتن والاضطرابات الداخلية .

6 – ابتلاء الله لهم المصائب والكوارث وضيق المؤونة والذل والفوضى . 

 فيما ذهب فريق آخر معارض للفريق الأول ، كعميد الأدب العربي ( طه حسين ت 1973م ) في كتابه الشهير " مستقبل الثقافة في مصر " الذي قدمه سنة 1932م ، والمفكر ( سلامة موسى ت 1958م ) في كتابيه الشهيرين " بين الأمس والغد " و " الدنيا بعد ثلاثين عاما " اللذين قدمهما سنة 1936م ، والباحث المفكر ( علي عبد الرازق ) في كتابه الشهير " الإسلام وأصول الحكم " الذي قدمه سنة 1926م عشية انعقاد مؤتمر الخلافة بالقاهرة ، و( قاسم أمين ) و ( الطاهر الحداد ) في كتابيهما الشهيرين عن " تحرير المرأة " وغيرهم .. إلى اعتبار إشكالية التخلف تعود أساسا إلى الانغماس روح الشرق القديم ، والبقاء في آسيا ، وعدم الارتماء في أحضان الغرب ، والارتماء في أوربا والإيمان بها والكفر بالشرق المرادف للتخلف والقديم والجمود والتقليد ..

  فيما ذهب فريق آخر كـ ( ساطع الحصري ) و ( محمد كرد علي ) و ( زكي الأرسوزي ) و ( أكرم حوراني ) و( ميشل عفلق ) و( قسطنطين زريق ) و( فيليب حتي ) و ( أنور عبد الملك ) و ( عبد الرحمن بدوي ) و( فؤاد زكريا ) و ( زكي نجيب محمود ) .. وآخرون إلى عدم تبني الرؤية العقلانية القومية التطلعية العلمانية الناهضة ، التي امتزجت لاحقا بين خطين متناقضين ، قومية يسارية اشتراكية ، وقومية علمانية ليبيرالية ، وصولا إلى مفكري الحداثة وطروحاتهم الحداثية وما بعد الحداثية كـ ( عبد الله العروي ) و ( هشام جعيط ) و ( محمد أركون ) و ( نصر حامد أبو زيد ) و ( حسن حنفي ) و ( محمد عابد الجابري ) وأستاذنا ( محمد حافظ دياب ) .. حيث عزو إشكالية التخلف إلى عدم إدراك روح الحداثة فهما وتطلعا ومشروعا ..

  فضلا عن منظري الحركات النهضوية الدينية الحديثة كـ ( جمال الدين الأفغاني ت 1897م ) و ( محمد عبدة ت 1905م ) و ( رشيد رضا ت 1936م ) و( محمد إقبال ت 1938م ) و( حسن البنا ت 1949م ) و( بديع الزمان سعيد النورسي ت 1960م ) و ( عبد الحميد بن باديس ت 1940م ) و( سيد قطب ت 1966م ) و( أبو الأعلى المودودي ت 1979م ) و ( مالك بن نبي ت 1973م ) .. و ( حسن الترابي ) و( طه عبد الرحمن ) و ( طه جابر العلواني ) و ( الشاهد البوشيخي ) .. الذين رؤوا في الابتعاد عن الدين سببا في التراجع والأفول الحضاري .

        إذن فنحن بإزاء رؤى متعددة لمشكلة واحدة ؟ يكتنفها سؤال واحد فقط ، مفاده : أي الأسئلة أقدر على انتزاع المشروع التطلعي الصحيح الشامل للجواب الصحيح على السؤال الاستراتيجي المطروح ؟  دون أن يمنح أي الفصائل لنفسه الحق بامتلاك الرؤية الصحيحة دون غيره ، حتى لو كان ينسب لنفسه الاغتراف من الأطر المرجعية المقدسة ، فقد ُتخطئه آلية فقه التنزيل على الواقع ، فيفشل في التشخيص من حيث يمتلك الدواء . وعليه يمكننا بلورة رؤى مشاريع النهضة في شتات الوعي المتشظي المطروح آنفا ، والذي يمكننا هيكلته وفق الهيكل التالي .         

* إشكالية الوعي المنشطر :

والرؤية التي استجمعتها من خلال قراءاتي لمشاريع النهضة المطروحة ، يمكن تصفيفها وتصنيفها وفق النسق الآتي :

1 – نسق الوعي العلماني العقلاني المادي الصرف .

2 – نسق الوعي اليساري القومي المادي الشمولي .

3 – نسق الوعي الديني الشمولي الواقعي الغيبي .

4 – نسق الوعي الحداثي وما بعد الحداثي التشكيكي .

        فالمسألة في أساسها مسألة تقدير قيمة ومكانة وأصالة منظار الوعي كإطار مرجعي وفلسفي من جهة ، وكآلة يمكن بواسطتها تحديد زاوية الرؤية الصحيحة والحقيقية لمشكلة التخلف من جهة ثانية . بحيث يصير الوعي محور الفهم الصائب من عدمه في التعامل مع المشكلة ، وهو ما يفتقده الكثير من الدارسين لاستشعار مواطن الخلل وأسباب السقوط وعوامل النهوض ، لتشظي آلية وفاعلية الوعي بالمشكلة ، ولاسيما الوعي الحقيقي بإنسان المرحلة .

* إنسان المرحلة :

واعتقادي أن المسألة تكمن في التأكد من آلية الوعي المتكامل لدى الدارسين ، وبخاصة وهم يتعاملون مع المشكلة أفقيا وعموديا ، حيث أفضت مفردات تجزيء المشكلة إلى تبيّن معالم الفصل بين حدي المسيرة الحضارية للأمة ، على المستويين الفردي والكياني ، إذ بات من الصعب تجاوز معضلة التعامل مع الفرد المتخلف الذي يتصف بالصفات الآتية :

1 –  الفرد المنشطر بين زمانين ، زمان الحضارة العربية الإسلامية الزاهي الزاهر الذي أفل من واقع وحكم وتوجيه الحياة اليوم ، وبين زمن تعيس بئيس قبيح متعثر ذليل فاسد .

2 – الفرد الذي لا يعيش عصره البتة ، بل هو غائب بإرادته واختياره ، أو مُغيّب عنه بالرغم منه .

3 – الفرد الذي صار يمثل ظاهرة اجتماعية وثقافية وفكرية وتربوية وأخلاقية عامة تشمل جميع أفراد المجتمع العربي والإسلامي ، وليس حالة فردية يمكن محاصرتها وعلاجها .

4 – الفرد الذي صار يشكل حالة انتكاسة حقيقية وانفلاتة سلوكية وقيمية باتجاه تعزيز قيم البداوة على قيم الحضارة والتحضر والمدنية ، على الرغم من آلاف الدولارات التي أُنفقت من أجل بناء مدن ومدنية متطورة لخدمته وجعله بعيدا عن قيم البداوة التي تبدو جلية في تعامله مع منجزات الحضارة المعاصرة .

5 – الفرد الذي صار يجسد روح الانهزام والتراخي ، وواقع القابلية للاستعمار ، والتبعية للآخر القوي فكريا وثقافيا ومعرفيا وأخلاقيا ..

6 – الفرد الذي تتنازعه عقدتان متباينتان : [ الاستعباد ، العبودية ] ، فهو مستعد لأن يمارس دور الدكتاتور والعبد أيضا في حالة توفر وانتفاء الظروف .

7 – الفرد الذي تتحكم فيه عقدة بروز الأنا الفردي على الأنا الجمعي وانعدام توازن  خنوس الأنا الفردري على حساب الأنا الجمعي .

8 – الفرد الُمعقد بعقدة الذُهان ، على حد تشخيص المفكر مالك بن نبي ، حيث يعتقد الفرد المتخلف قدرته على فعل كل شيء ، واستبساط واستهسهال كل شيء .

        وهنا يكمن دور الوعي بالمشكلة انطلاقا من وعي حالة الفرد المنتكس حضاريا ، والذي هو مناط النهضة والانكسار . وهو ما جهله أو تجاهل عنه منظرو النهضة .  

* ثقافة المرحلة :

 ولا يكفي فقط للدارسين الوعي بإنسان مرحلة التخلف فحسب ، بل يجب وجوبا عينيا الوعي الحقيقي والصادق والواقعي بنوعية الثقافة السائدة في مرحلة الخنوس الحضاري ، إذ يمكننا وصف ثقافة المرحلة السائدة ، التي نحاول التدافع معها بالمواثفات والمعالم التالية :

1 –  فهي ثقافة ، غلبة نزعة المديح والثناء والحمد والشكر الممل .

2 – فهي ثقافة ، غلبة نزعة التعلق بالماضي والتشظي معه .

3 – فهي ثقافة ، غلبة نزعة التسامي والاستعلاء والتفاخر بالماضي التليد .

4 – فهي ثقافة ، غلبة نزعة الشاعرية والأحلام والطوباوية والتعلق بالخيال .

5 – فهي ثقافة ، غلبة طابع الاعتزاز بالكم والحجم والشكل .

6 – فهي ثقافة ، غلبة نزعة التجزيء والتفكيك والتفتيت ، ومقولة : [ فيها قولان ] .

7 – فهي ثقافة ، غلبة نزعة المظاهرية والشكلانية والاحتفالية والمهرجانية .

8 – فهي ثقافة ، العجز عن إدراك روح المدنية وحقيقة الحضارة الغربية ، وغيرها من حضارات آسيا الناهضة اليوم .

9 – فهي ثقافة ، التعلق بمظاهر وشكلانية المدنية الغربية والتفكير في الحصول السهل على منتجاتها ، وليس التفكير الجاد في محاولة أنتاجها وتصنيعها .

10- فهي ثقافة ، عدم القدرة على التحكم في أدوات إنتاج المدنية وتسييرها والتحكم فيها ، ثم التخلص من نفاياتها ، في عصر الفيضان النفاياتي وغرق البشرية في مستنقع القذارات الكيمياوية والبيولوجية والنووية وغيرها من مخلفات الإنسان الحداثي المتوحش .

* سبيل النهوض :

واعتقادي أن وعي الوعي الحقيقي ، هو عين الوعي الحقيقي والصحيح ، وهو السبيل الحقيقي للنهوض ، حيث معه تبدأ أول حلقة من حلقات النهضة : الفهم والإدراك للمشكلة والوعي بخطورتها وآثارها ، والتعرف على َمحِلِ ومحور العملية كله ، وهو الإنسان ، وهما – في اعتقادي المتواضع – روح عملية التغيير والنهضة الحقيقية ، وعي الواعين الحقيقي بالمشكلة والإنسان .

وإما إن بقي الوعي المنشطر هو الهوى الغالب على منطق التفكير والتحليل والاستنتاج لدى الدارسين فعود على بدء ، واجترار وانتكاس ومراوحة مكانية ، ولات نهضة إذن .

*أستاذ الدعوة والإعلام والفكر الإسلامي المعاصر كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية جامعة الحاج لخضر – باتنة –

يمكنك الوصول للخبر بسهولة عن طريق الرابط المختصر التالي:
https://alssehafi.org/?p=10285

شاركنا بتعليق








لا يوجد تعليقات بعد



 تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة

تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة ..... المزيد

 المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات

المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات ..... المزيد

 ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم

ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم ..... المزيد

 “الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف

“الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف ..... المزيد

 سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024

سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024 ..... المزيد

 التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية

التعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية ..... المزيد

 ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة

ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة ..... المزيد

 البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية

البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية ..... المزيد

 أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري”

أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري” ..... المزيد

 أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع

أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع ..... المزيد

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com