عناوين الأخبار

المنزل الورقي والمنزل الإلكتروني

الجمعة 23 ديسمبر 2016م       -       04:49:32 ص
المنزل الورقي والمنزل الإلكتروني

الأستاذ الدكتور أحمد محمود عيساوي

( ليس من المنهج أن نبدأ بالنتيجة ، إنما الُمعتاد أن نبدأ بالمشكلة )

* تبعات المشكلة : 

لي صديقان نشآ منذ طفولتهما في بيئة ورقية ومكتبية بامتياز ، تقدس الكتاب وتُجله أيَّما تجلةٍ ، حيث كانت التنشئة الاجتماعية تعتمد يومها على الشيخ والمعلم والكتاب ، ومن تلك البيئة التربوية التقليدية أخذا كل معارفهما ونظرتهما وتصوراتهما ومواقفهما للحياة وللوجود وللطبيعة وللكون وللإنسان وللنظام .. وكانا كأبناء زمانهما يعتزان باقتناء الكتاب الجديد مهما غلا ثمنه ، وضمه إلى مكتبتهما بأسرع وقت ، بل وقراءته أثناء عودتهما إلى منزلهما مستغلين بُعد المسافة بين وسط المدينة ومنزلهما .

   وعلى هذه الطبيعة والعادة نشآ وعاشا وتخرجا من الجامعة ، ودلفا إلى سوق العمل مباشرة شابين يافعين مفعمين بالحيوية الجسدية والعقلية والوجدانية ، وعمل أحدهما في حقل التربية والتعليم ، والآخر في حقل تكوين الأئمة والوعاظ ، فهما لم يخرجا عن قطاع التربية والتعليم صغيرين وكبيرين ، وظلا خلال فترة مسارهما المهني يضجران من تأثير فترات العمل على تراجع وتيرة مقروئيتهما ومتابعتهما للجديد في عالم الفكر والثقافة والأدب والفن ، حتى تمكنا من الحصول على شهادة الدكتوراة والالتحاق بالتدريس في الجامعة الجزائرية ، ومن جميل الأقدار الإلهية أنهما وجدا أنفسهما يُدرسان التخصص نفسه في الكلية نفسها ، فصارا أكثر قربا من بعضهما جسديا وروحيا ووجدانيا ومعرفيا ، حيث وفرت لهما الجامعة فرصة تدريس الإطارات الجامعية العالية ، ما دفعهما للتحضير الجيد والانكباب على التهام رفوف المكتبة الجامعية ، وظلا يُطوران أدواتهما المعرفية والمنهجية والمصطليحة والفكرية ، حتى صارا من كبار كتاب القطر الجزائري ، ولتسهيل عملها المعرفي والعلمي والفكري والصحفي اقتنيا آلة كتابة يدوية " الآلة الكاتبة " وصارا يكتبان بها أبحاثهما ودروسهما ومقالاتهما ولاسيما الموجهة إلى الصحف والمجلات المحلية والعربية ، وظلا سعيدين بآلتهما التقليدية ، يتبادلان الخبرة في سبيل الحفاظ عليهما  ، سعيدين باقتناء وقراءة المجلات العربية والتي تنزل القطر الجزائري وافدة من المشرق العربي ..

وظلا كذلك سعيدين مسرورين يساهمان في دفع الحركة الفكرية والأدبية والمعرفية والعلمية والدينية في بلدهما ، مسايرين ما يدفعه العقل الإنساني من مخترعات وابتكارات بدءاً من : التلفزيون الملون فآلة التسجيل والتصوير فالفيديو فالصحون المقعرة والبث الفضائي وصولا إلى الإلكتروني فالرقمي اليوم وأجياله المتسارعة المتصارعة .. ، لأكثر من عشرين سنة زمنية دعوية صبيرية فاعلة ، حتى أطلت عليهما أول أجهزة الإعلام الآلي والكتابة الإلكترونية ، فتبادلا الآراء والرؤى حول الوافد الإلكتروني الجديد ، وبحثا بعمق بعض فتوحاته وفوائده ، وعاينا عن كثب الخطوات الأولى لنزوله عالم البحث العلمي ، وراقبا بدقة حركة تطوير تلك الأجهزة ، وانتفعا بها في تدوين رسالة الدكتوراة في مطالع القرن الخامس عشر الهجري تسعينيات القرن الميلادي الماضي ، ودخلا دون شعور منهما مرحلة الاستدراج الإلكتروني والاستهواء المعلوماتي والإبحار الشبكي ، وانكبا بشغف أيضا على فتوحات القراءة الإلكترونية وشبكات المعلوماتية ، وشعرا بالسعادة الغامرة وهما يُنشئان أول بريد إلكتروني لهما مطالع الألفية الثالثة ويُرسلان أولى رسائلهما الإلكترونية بديلا عن البريد الورقي العادي البطيء ، مرددين هتافا جميلا وبراقا : (( وداعا يا عصر الورق )) ، كما شعرا بالسرور الغامر يكتسحهما بقوة وهما يقرآن أول مقال وبحث وكتاب إلكتروني ، ووجدا ضالتهما في إشباع نهمهما من القراءة لاسيما للكتب التي لم يتمكنا منها ورقيا .

ومن وقتها ودون شعور منهما بدآ يتنصلان من اقتناء الكتب الورقية الجديدة ، وفقدا شعور وإحساس متعة الكتاب الورقي ، ومتعة الجلوس في المكتبة والتنعم بنعيم النظرة إلى رفوف الكتب وهي مرتبة على الرفوف بألوانها البنية والسوداء والخضراء المذهبة .. وتخلى أحدهما نهائيا ومن غير رجعة عن مكتبته وطلاقها طلاقا بائنا بينونة كبرى ، ثم قام بعمل جنوني وإلكتروني تجاهها وهو يخبر صديقه بأن شعورا بالسعادة يغمره وهو يتخلص منها بعد طول عشرة وصحبة ، فأهداها ووزعها على الأصحاب والخلان والمكتبات العامة .. ولم يُبْقِ عنده حتى كتبه الخمس والعشرين التي ألفها أثناء حياته الورقية الطويلة ، وباع طرفة الأثاث التي كانت تضم رفوفها كتبه وأصدقاءه المؤنسين ، وأخبر صاحبه – بكل خفة واستهزاء وبشعور غريب ومبهم – بأنه لم يعد يطق رؤيتها في البيت ، فضلا عن كونها تحتل مساحة بارزة وكبيرة في صدر غرفة الاستقبال ، الذي بات يتضايق منها هو أيضا ..

فانتاب صاحبه شعور من الضيق والألم لما حصل مع صديقه ، الذي بدا له وكأنه يعرفه لأول وهلة ، واحتار حيرة شديدة سحقت أمام ناظريه كل نور يمكن به أن يشاهد ويميز به الصواب من الخطأ والحق من الباطل ، وقد ذهبت به حيرته المبهمة مذهبين ، أحدهما : تجاه صديقه الذي تفاجأ به بعد طول عشرة مع المكتبة والكتاب وهو يتصرف هذا التصرف الجنوني مع خيرة أصدقائه ومؤنسيه ، وثانيهما : مع نفسه وحاله وواقعه الجديد ، وماذا يفعل هو بكتبه ومكتبته ؟ وإن فَتَرَ هو نفسه في مرحلة من المراحل في تعمير واقتناء الكتب والاهتمام بمكتبته التي ران عليها شيء من الغبار وعَدَتْ عليها عاديات النسيان .

ومن يومها صار أحدهما إلكترونيا بامتياز ، يكره الورق كراهية الموت ، ولا يحب أن يراه في بيته ، ولا يحب أن يتجه إليه حتى أحد من طلبته ، فضلا عن أبنائه ، فلو استطاع – بزعمه – لصار التعليم إلكترونيا وانتهى – برأيه – من فظاظة التعليم الورقي ، وعلى هذه التنشئة السلوكية والاجتماعية والنفسية حوّل بيته وزوجته وأبناءه وحتى طلبته إلى كائنات إلكترونية ، وصار بيته يُسمى في تلك البلدة بالمنزل الإلكتروني .

فيما فكر صاحبه الآخر وقرر أن يعود لدراسة مسار حياته دراسة علمية ومنهجية أكاديمية محايدة ، ثم يتخذ القرار المتناسب مع ما يصلح له ولبيته ولأهله وأولاده وتلامذته ، فدرس بدقة معرفية ومنهجية وعلمية ، وبحث بعمق ميزات الورقي والإلكتروني ووضع جدولا مقارنا بينهما ، كما درس فوائد عصر وجيل الورق الرصين والرومانسي المتميز ، وعصر وجيل السيليكون السريع والخفيف والجديد المتحرك .. وقرر أن ينتفع بهما معا في أيقونة وسنفونية تعزف نغمتي منافع وفوائد الورق والسيليكون معا ، على مبدإ تفعيل لذة القديم والتلذذ بنكهة الجديد ..

وظل الصديقان تربطهما الصداقة والأخوة الفكرية والعلمية والدعوية والمهنية ، ولكنهما انتقلا إلى عدوتين منفصلتين مختلفتين متباينتين جدا ، في التفكير والتدبير والتصور والنظر والقراءة والكتابة والمنهج والقرار والحكم على الأشياء والسلوك في الحياة .

فهذا اختار الحل والخيار الإلكتروني إلى غير ما رجعة ، وصار مدمن سيليكون وشاشات وأضواء وكهرباء وأزار ، وإن صادف وزاره صديقه وأهله ليعوده ، استقبله استقبالا إلكترونيا ، فلا ينتظره أمام الباب ولا يأذن له بالدخول ، ولا يُرحّبُ به الترحيب التقليدي ، بل يدلف صاحبه إليه مباشرة إلى غرفة نومه حيث يجده منكبا ومعتكفا على الشاشة التي أخذت سمعه وبصره وقوته وعقله وقلبه وجسده وروحه ، حيث صنعت منه رجلا انعزاليا كسولا خاملا افتراضيا وهميا ، بعيدا غريبا عن الواقع ، أهمل كل شيء في حياته ، ينام ويستيقظ ويَقيلُ ويأكل ويشرب ، بل يُسرع في صلاته بسبب الانكباب على الشاشة ؟؟ وضعفت بسبب ذلك كله مناعته الصحية والنفسية والجسدية .. وتطورت لياقته الاجتماعية تطورا داروينيا كارثيا ..فلم يعد عنده شيء ثابت ، فالكل متغير متحول ، فثابت الأمس متغير اليوم ، وهكذا الحياة عنده ..

والثاني قرر بعد طول بحث ونظر وتوسم الانتفاع بهما معا في جدلية معادلة الموازنة بين الأصالة والمعاصرة ، مُدركا علما جديدا أو فقها حديثا يُسمى : " فقه الآلة " أو " ثقافة الماكينة " . وصارا ينتجان الأبحاث والدراسات ويشاركان في الملتقيات والمؤتمرات ، ونجحا في مسارهما العلمي مجددا ، ما دل على نجاعة اختيارهما ، بحيث لم يعد أحد يُنكر على الآخر اختياره . ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان ؟؟        

* خطر استغوال الآلة :

  وحصل ما لم يكن في الحسبان ، وأن هاجم اللصوص المولعين بسرقة الأجهزة الإلكترونية بيته في غياب الأسرة طمعا في الأجهزة التي يحتويها بيته الإلكتروني المميز ، وسرقوا كل الأجهزة الموجودة في البيت ، ولم يتركوا له أيَّا من خردوات العولمة التي كان شغوفا باقتنائها وتتبعها حد الإدمان المرضي ، بحيث لا يُعَمِّرُ الجهاز عنده بضعة أشهر ، بَلْهَ بضعة أسابيع حتى يبيعه بأبخس الأثمان ويقتني الجيل الذي بعده . وعلم صاحبه بما حصل له فزاره في مساء اليوم الذي حصلت فيه عملية السطو مُقدرا مصابه الجلل الذي حل به ، ومسليا ومعزيا ومتعاطفا ومهونا عليه قدر الله سبحانه وتعالى ، الذي يحب لنا كل خير ، ولعله أراد له بذلك العمل خيرا له ولأهله ، ولعله للخروج به وأهله من حالة الإدمان القاتل التي صار إليها أمره . والغريب في أمر اللصوص الإلكترونيين أنهم لم يسرقوا علب كتبه المطبوعة في مصر الشقيقة ، بل تركوها مفتوحة كما هي .

زاره صاحبه في تلك الأمسية وهو يحمل معه حاسوبا إلكترونيا صغيرا سبق وأن أهداه إياه منذ سبع سنوات ليبين له منافع الأجهزة الإلكترونية ، وليقنعه يومها بشكل عملي بضرورة التخلي عن أحلامه " الدونكيشوتية " التي طال أمدها ، فلما دخل البيت كعادته الإلكترونية من غير استقبال ، وفتح الباب ودخل وأهله كعادتهما ، وجد البيت مظلما كئيبا حزينا صامتا هادئا هدوء الطبيعة قبل نزول العاصفة الهوجاء ، قد غابت منه أنوار الشاشات وبريقها الخادع ، الكل نائم في سريره : مقهورا حزينا على فقدان صديقه ومؤنسه الوفي ، موصدا باب غرفته ، وكأنه بيت جان أو أشباح ، فتذكر صاحبه مدن الأشباح التي هجرها أهلها بعد اختراع القطار في الولايات المتحدة الأمريكية أواسط القرن التاسع عشر الميلادي ، وعاجله صاحبه مباشرة وقبل التحية والمواساة بإخراج الحاسوب القديم وتقديمه له : سلوى وتعزية ، فأخذه متلهفا ودون إحساس منه بادر إلى وصله بالخطوط الكهربائية ، وظل يتحدث عن حادثة السرقة وعيناه مسمرتان على شاشة جهازه القديم الذي أهداه لصاحبه يوما ما ، منتظرا اللحظة التي تنبعث منها أضواء الشاشة ، التي رفضت الاستجابة لكون الجهاز ظل طيلة سنوات مسترخيا لا يتحرك أمام رومانسية الكتاب والمكتبة .

وبدا وأن الصديقين يتحاوران بلسان حالهما وماضيهما من جديد ، ولكن في الحقيقة فقد استعادا حوارا كان قد نشأ بينهما منذ سنوات حين قررا الانفصال الوسيلي والوقوف بين العدوتين ، واقترح الصديق في حواره حكمة مفادها : " أنه آن الأوان للعودة للتفكير الحقيقي في منجزات الحضارة وأهمية الارتباط بالآلة ؟ " . وتطور النقاش بينهما في جدلية جدوى تأثير نظرية " الحتمية التكنولوجية " على إنسان القرن الواحد والعشرين ، ومدى حاجة الإنسانية عموما والفرد المسلم والعربي خصوصا لتفعيل نظرية " الحتمية القيمية " بمقابل سطوة الحتمية الإلكترونية والتكنولوجية ، واستعادة شعار المهرجان العالمي للإعلامياء بمدينة " هامبورغ " الألمانية سنة 2002م ( إلى متى وأنت غارق في شبكة المعلوماتية ؟ )  .

ثم تناول كتابا من كتب صديقه المطبوعة بمصر في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، كان قد ألفه سنة 2007م للرد على رسومات المجلة الدانماركية الساخرة التي تناولت عرض رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، وعرض على الأسرتين أن يقرأ لهما بضع صفحات ، لعل صاحبه وأسرته يقرران استحسان العودة إلى الورقي ، فوجد نفسه يقرأ لأسرته ولنفسه ، وأُسقط في يد صاحبه وانفرقعت الأسرتان متفرقتين ، وعاد الحزن والكآبة يخيمان على الأسرة الإلكترونية ، وانتهت الزيارة باستحضار حكمة مفادها : خطورة الإدمان ، والعجز الإنساني أمام استغوال الآلة التي صنعها بيده .       

* ثقافة الماكينة :

  ولكون الصديق عاجز ماديا ، ومُثقلٌ بالديون والأزمات ، وغارق في الكثير من المشاريع الفاشلة والوهمية ، ولا يستطيع اقتناء أجهزة جديدة إلاّ بعد مضي أشهر ، ولإدمانه الإلكتروني المرضي ، ولإيصاده بقية الأبواب الوسيلية الأخرى عن نفسه وأسرته ، واكتفائه بالباب الإلكتروني ومواقع شبكة التواصل الاجتماعي ومحركات البحث ، وعدم تعمقه في " فقه الأزمات " و " فقه البوابات " و " فقه البدائل " و " فقه الاحتمالات " .. فقد صار عرضة للكثير من المشكلات على رأسها الحيرة القاتلة والتخبط في الرؤية ، وفقدان التوازن النفسي والاجتماعي والمهني والحياتي عموما ، فتعكر صفو الحياة في ناظريه وأسرته ، وارْبَدَّ وجهها ، وانطمس جمالها ، وغابت عنه رسالة ووظيفة الإنسان فيها .. ، وصار من العسير عليه العودة إلى القراءة الورقية ، ولم يعد بيتا إلكتروني في لحظة من لحظات الزمن الإلكتروني الغادر .

  وحكاية هذين الكاتبين والباحثين والأستاذين الجامعيين المتميزين الجزائريين هي واحدة من بين مئات الملايين من القصص الواقعية والحقيقية التي اجتاحت الأسر في العالم دون تمييز ، أو استئذان ، أو اختيار ، أو إرادة .. بين مثقف رفيع المستوى ، وبين نخب تقود وتسير وتوجه ، وبين عامة الناس .. وذلك بسبب غياب تصور واضح للمنجز الإنساني في عالم الأشياء ، ولتراكماته الإنجازية ، ولغياب علم اسمه :  " فقه التفاعل مع الآلة " ، أو " فقه التعامل مع – الماكينة – " ، الذي نعتقد أنه غائب من أدبيات تكويننا وتنشئتنا الاجتماعية والتربوية ..

 ومن هنا أمكننا طرح جملة من التساؤلات الكبرى ، لعل أهمها :

1 – من يستعبد من ؟ الآلة أم صانعها ؟

2 – كيف يخترع الإنسان الآلة ثم تستعبده ؟

3 – هل قدره أن يستعبد نفسه بيديه ؟

4 – أيُّ الصديقين أصاب في منهجه ؟

5 – هل باستطاعة الإنسان الانفكاك من أسر منتجاته ؟

6 – مَ وكيف السبيل للخروج من مأزق الإدمان ؟

* ثقافة الوعي الوسلي :

   أعتقد أن الإجابة على مجمل هذه التساؤلات في عجالة ضرب من العبث المنهجي والمعرفي والعلمي .. حيث يحتاج كل سؤال منها إلى ترسانة من العمليات المنهجية المضبوطة : بدءاً بتقدير حجم وخطر الظاهرات الاجتماعية الإلكترونية ، ورصد نتائجها وتأثيراتها التي باتت تهدد الكائن الإنساني المكرم ، وتحمل نذر الخطر على مصير الإنسانية جمعاء . ثم الحاجة الماسة والأساسية إلى ملايين من العيون واللواحظ النخبوية والمنهجية والمعرفية والبحثية المتميزة جدا ، وذلك لتقدير وضبط ومحاصرة مستوى هذه الظاهرات الإلكترونية بسائر العلميات المنهجية المكتشفة والجديدة أو المتداولة منهجيا ، وذلك برصف التساؤلات والإشكالات والفرضيات والاستقراءات والتتبعات ، والتعمق في ضبط الأنساق والتشابهات والفروقات الظاهراتية .. لمحاولة رسم معالم ثقافة وسيلية واعية ، وتوجه رسالي ووسيلي غائب أو مُغيَّبٍ من حياة الناس  ، لاعتبارات سيبينها البحث المنهجي ويتوقعها ويتنبأ بها ويحاول عدها والتنبيه منها ، ومن ثمة ضبطها وتقنينها ، وتحويلها ضمن أنساق ومواد التحليل المعرفي للتنشئة الاجتماعية والنفسية والتربوية الضرورية والمفيدة لاستعادة إنسانية الإنسان ، أمام جبروت سحر الآلة ، ولاسيما حين يصغر ويتضاءل ويضعف أمامها ، وتوجهه نحو رسالته المنوطة به جِبِلِيًّا ، وفق معالم الفطرة السوية المذخورة في وجوده ومكنونه الأول .

   حيث الحاجة هناك ماسة ، بَلْهَ شديدة الاحتياج جدا ، إلى إعادة توجيه الأسئلة للإنسان نفسه – بغض النظر عن دينه ومعتقده – في سياق استيعاب هذه القصة الأنموذج ، التي تضمنت مشهدين متباينين ، وتعميق السؤال المعرفي في الأنموذجين ، وكيف سلك الأنموذج الثاني الطريق من خلال سؤاله ونقده وتحليله لواقعه ونفسه ووجوده ومصيره ومستقبله ؟ ومن حيث قدرته على رسم ورصف الحاجات الأساسية منها ؟ وذهول الأنموذج الأول وانكساره – بعد فرحة وسيلية وإلكترونية قصيرة وخادعة – أمام عدمية الموقف الذي آل إليه بعد ضياع وتلاشي الواقع الافتراضي والإلكتروني الوهمي .

      إنها – في نظري – مسألة فهم وتفكير ، بل مسألة إعادة فهم وتفكير في ما تدفعه عقول البشر نحو عالم الأشياء والمنجزات ، ومسألة قراءة وتحليل لعوالم الأشياء والأشخاص والأفكار والقيم والروح والوجدان والجمال .. إنها مسألة فلسفية عميقة تتجه أساسا لتنبيه قوافل العرابين والمبشرين الإلكترونيين الجدد من فلاسفة الحداثة وقساوسة شبكات التواصل الإلكتروني والعنكبوتي ومحركات البحث العملاقة في عصر الصورة والمعلومة والمعرفة التي ذهلنا أمام بريقها وتسارعها ، وعجزنا عن اللحاق بها فضلا عن مواكبتها .

      إن عمق التكوين ، ودقة القراءة ، وسلامة التحليل ، وصوابية المقاربة والتوسم ، وأصالة ومطلقية التمكن المرجعي العميق .. سبيل الإجابة الوسيلية الواعية ، التي تنتج وعيا وسيليا جديدا وناهضا ، وتبعث شعورا روحيا فاعلا ، بعيدا عن الأماني والأقوال وتيه وضياع الآخر المنتج لها ، وبعيدا عن حال الاسترخاء أمام سحر الشاشة القاتلة ، للذي لا يعرف مواطن السعادة والشقاء فيها . 

 إننا بحاجة لكل هذا وذاك ، ولغيره أيضا .      

* أكاديمي وباحث جزائري في الفكر الإسلامي 

يمكنك الوصول للخبر بسهولة عن طريق الرابط المختصر التالي:
https://alssehafi.org/?p=9635

شاركنا بتعليق








لا يوجد تعليقات بعد



 انخفاض الدرن في المملكة إلى 22%..والعلاج يستمر 6 أشهر والتحصين الحل الامثل

انخفاض الدرن في المملكة إلى 22%..والعلاج يستمر 6 أشهر والتحصين الحل الامثل ..... المزيد

 الدكتور عسيري: توفر لقاحات لمنع وعلاج السرطان

الدكتور عسيري: توفر لقاحات لمنع وعلاج السرطان ..... المزيد

 “الصحة” :  120 دقيقة لنقل جثث الموتى للطب الشرعي

“الصحة” :  120 دقيقة لنقل جثث الموتى للطب الشرعي ..... المزيد

 وزير الصحة يفتتح ملتقى الصحة العالمي 2023 بمشاركة وزيري الاستثمار والصناعة

وزير الصحة يفتتح ملتقى الصحة العالمي 2023 بمشاركة وزيري الاستثمار والصناعة ..... المزيد

 بقيادة المستشار في الديوان الملكي الدكتور الربيعة..البدء في عملية فصل التوأم السيامي التنزاني حسن وحسين

بقيادة المستشار في الديوان الملكي الدكتور الربيعة..البدء في عملية فصل التوأم السيامي التنزاني حسن وحسين ..... المزيد

 خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يتبرعان بمبلغ ١٥٠ مليون ريال لجود الإسكان

خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يتبرعان بمبلغ ١٥٠ مليون ريال لجود الإسكان ..... المزيد

 خادم الحرمين الشريفين يتبرع للحملة الوطنية للعمل الخيري بمبلغ ٤٠ مليون ريال وولي العهد بمبلغ ٣٠ مليون ريال

خادم الحرمين الشريفين يتبرع للحملة الوطنية للعمل الخيري بمبلغ ٤٠ مليون ريال وولي العهد بمبلغ ٣٠ مليون ريال ..... المزيد

 مركز الملك سلمان الجهة الوحيدة التي تتسلم أي تبرعات إغاثية أو خيرية أو إنسانية

مركز الملك سلمان الجهة الوحيدة التي تتسلم أي تبرعات إغاثية أو خيرية أو إنسانية ..... المزيد

 الأخصائية الاجتماعية أثير بنت فهد لـ”الصحافي”: زيادة الوعي وتعزيز التسامح وفرض العقوبات للحد من ظاهرة التنمر

الأخصائية الاجتماعية أثير بنت فهد لـ”الصحافي”: زيادة الوعي وتعزيز التسامح وفرض العقوبات للحد من ظاهرة التنمر ..... المزيد

 تحت رعاية ولي العهد..أمير منطقة الرياض يكرّم المحسنين عبر المنصة الوطنية للعمل الخيري (إحسان)

تحت رعاية ولي العهد..أمير منطقة الرياض يكرّم المحسنين عبر المنصة الوطنية للعمل الخيري (إحسان) ..... المزيد

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com