(القيمة الدينية ودورها في عملية التنمية الشاملة) 1
أ .د. أحمد محمود عيساوي
قيمة النهي عن التبذير والإسراف أنموذجا
الحلقة الأولى
* ضياع البوصلة: تبذل الحكومات والدول الجهود المادية والأدبية والتشريعية والقانونية الجبارة للتصدي لظاهرة التخلف، وتُخصص لأجل ذلك الهدف الاعتمادات والأغلفة المالية المتنوعة، وتضع الخطط والمشاريع والدراسات المُستقاة من خلاصة وتجارب الخبرات العالمية في سبيل تحقيق نسبة مرضيةٍ من النمو السنوي السريع، وبلوغ مشارف النهضة والدخول في مرحلة التقدم، والخروج من معوقات وآثار وتبعات التخلف والانحطاط. وتُتبِعُ ذلك كله بعمليات تقيمية بالغة الدقة في التنفيذ والمتابعة والمراقبة وغيرها من آليات التقويم والتقييم.. وتجد نفسها أخيرا وبعد انتهاء مدة إنجاز المشروع أو المخطط أنها لم تحقق ما كانت تصبو إليه من نسبة نمو ورقي ونهضة وتقدم، فتستدعي لأجل ذلك أكبر الخبراء العالميين، بَلْ تلجأ إلى أرقى مراكز البحث والدراسات والخبرة العالمية لتعرف أسباب فشل مشاريعها وخططها، وضياع الاعتمادات المالية المُخصصة لذلك، فتكون نتائج تلك الدراسات منصبة على تحليل الجانب المادي من المشروع، وهو عنصر مهم وضروري في عملية التحليل، ولكنه يُقيّْمُ ويعادل نصف الدراسة فقط، مهملةً في الوقت نفسه – للأسف- نصف عناصر الدراسة المُمثلة في الجانب الديني والقيمي والأخلاقي، ودوره في عملية التنمية الشاملة، وفي صناعة إنسان متحضر وصياغة جماعة وأسرة وفرد متميز، وهم عماد وصلب مكونات عملية التنمية الشاملة.
فهل يكفي وضع الخطط وتخصيص الاعتمادات المالية لتحقيق التنمية؟ وهل يمكن الاعتماد فقط على الجانب المادي لتحقيق التنمية الشاملة؟ وهل من الصواب والمعقول إهمال أو نسيان أو تجاهل أو استبعاد العامل الديني أو القيمي أو الأخلاقي في عملية التنمية الشاملة؟ وهل الاقتصار على العامل المادي البحت كفيل بتحقيق التنمية لوحده؟ وهل حقق العرب والمسلمون باستبعادهم العامل الديني منذ قرن إلى اليوم نهضة حقيقية غير تابعة أو معتمدة على هيمنة الغالب الوقتي؟
وفي سبيل الإجابة على تلك الفرضيات، فقد قدمنا خطوات منهجية وتحليلية، وأخرنا خطوات علمية ومعرفية وتراكمية أخرا، لتفكيك المشكلة ومحاولة الإجابة عنها إجابة علمية ومنهجية صحيحة ودقيقة ومفيدة، ولعلنا نقول في بداية إجابتنا الأولية: إنه بإمكاننا صناعة نهضة مادية وبلوغ مستويات من النمو والتقدم العمراني والمنشآتي والمادي الذي يستجيب لمتطلبات الغريزة ولحاجات الفرد البيولوجية والفيزيولوجية، ولكنها في حقيقتها نهضة عرجاء وغير مكتملة الأبعاد، لأنها عالجت وتناولت نصف العملية التنموية فقط، وانحصرت في تنمية الجانب المادي منها. وبمقابل هذه الرؤية المبتسرة لعملية التنمية نجيب أيضا قائلين: إنه بإمكاننا تحقيق نسبة نمو مقبولة وصحيحة بتنمية الجانب الديني والقيمي والأخلاقي في الفرد والجماعة والأسرة، دون إهمال – طبعا- لأهمية الجانب المادي في العملية، الذي سيُحسن من مستوى الفرد السوي ومن درجات استغلاله واستثماره الواعي في حال تلقيه تربية وتكوينا دينيا وقيميا وأخلاقيا صحيحا وسويا. فكيف يكون ذلك
بل نذهب بعيدا ونكون أكثر تفاؤلا وحيوية وبهجة في تحليلنا واستقرائنا واستنتاجنا بجدوى البحث التاريخي والواقعي الميداني أيضا، لنقول: إن تطبيق قيمة دينية أو أخلاقية واحدة على نطاق الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع تطبيقا واقعيا وحقيقيا وصادقا وسويا تعادل ملايين الدينارات، أو توفر ملايين الدينارات ، أو تجلب ملايين الدينارات، أو تُنجح مشروعا بقليل من الدينارات. وسنضرب أمثلة من خلاصة دراستنا التحليلية الرياضية عن فاعلية وجدوى عالم القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية لبلوغ نسبة مرضيةٍ من النمو السريع والفعال، وتخليص الاقتصاد من معوقات التعثر والتضخم والتبعية، ولتحقيق أهداف النهضة الحقيقية.
وقبل هذا وذاك، نود أن نُعَرِّفَ ماهية القيمة والتنمية، فما هما؟
* ماهية القيمة: القيم معايير ومقاييس وموازين متنوعة باعتبار مجالها وميدانها، فثمة القيمة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفلسفية والتربوية والأخلاقية والنفسية والسلوكية.. ويرى الأستاذان (فؤاد علي العاجز وعطية العمري،) أن القيم: (عبارة عن تنظيمات تتعلق بالاختيار والفعل وهي مكتسبة من الظروف الاجتماعية) (القيم وطرق تعلمها، جامعة اليرموك، إربد، ص 5).
في حين يرى آخرون أن القيم: (تنظيمات معقدة لأحكام عقلية وانفعاليه نحو الأشخاص أو الأشياء أو المعاني، سواء كان هذا التقدير ناشئاً عن هذا الشيء بصورة صريحة أو ضمنية).
وقد عرَّفتها لجنة القيم والاتجاهات بوزارة التربية والتعليم الأردنية بأنها: (معنى وموقف وموضع التزام إنساني أو رغبة إنسانية، ويختارها الفرد بذاته للتفاعل مع نفسه ومع الكلية التي يعيش فيها، ويتمسك بها).
فهي في محصلة (مجموعة من المعايير والأحكام تتكون لدى الفرد من خلال تفاعله مع المواقف والخبرات الفردية والاجتماعية بحيث تمكنه من اختيار أهداف وتوجهات لحياته يراها جديرة لتوظيف إمكانياته، وتتجسد في القيم من خلال الاهتمامات أو الاتجاهات أو السلوك العملي أو اللفظي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة). ولا تعدو أن تكون تلك القوانين والمقاييس التي تنشأ في جماعةٍ ما، ويتخذون منها معايير للحكم على الأعمال والأفعال المادية والمعنوية، وتكون لها من القوة والتأثير على الجماعة بحيث يصبح لها صفة الإلزام والضرورة والعمومية، وأي خروج عليها أو انحراف على اتجاهاتها يصبح خروجاً عن مبادئ الجماعة وأهدافها ومثلها العليا . فهي مقاييس تحكم بها على الأفكار والأشخاص والأشياء والأعمال والموضوعات والمواقف الفردية والجماعية، من حيث حسنها وقيمتها والرغبة بها، أو من حيث سوئها وعدم قيمتها وكراهيتها.
وهي معيار وميزان ومستند مرجعي، له حكم الناموس القاطع في حياة الجماعة ، وهي حسب الدراسات الإسلامية تتركز على خمس قيم أساسية هي: [1- القيم العقدية الروحية، 2– القيم الوجدانية النفسية والانفعالية، 3– القيم الفكرية والعقلية، 4– القيم الجمالية والفنية والرمزية، 5– القيم الأخلاقية والسلوكية] وذلك عبر منظومات وأنساق تواصلية خاصة ولصيقة جدا بالبناء الأساسي لآليات الاتصال الشرعي للفرد وشبكة تواصله الجمعي والكياني، وتبدو سائر تمظهراتها وتطبيقاتها في سائر الجوانب الأخرى.
ومن خلال هذه المقاربة الاصطلاحية يمكننا تعريفها بأنها: كل ما تواطأتْ له قيمةٌ معيارية في مرجعية الجماعة تُرازُ به تفاعلاتهم وشبكة علاقاتهم الاجتماعية. والآن نتساءل عن معنى التنمية، فما التنمية إذن؟ وما هي مجالاتها وميادينها؟
* ماهية التنمية: التنمية هي: ((..عملية إحداث مجموعة من التغييرات الجذرية في مجتمع معين، بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطوير الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده)).
فهي –كما يراها الأستاذ سعد الدين إبراهيم من كتابه التنمية في مصر- ((عملية تغيير اجتماعي متعددة الجوانب غايته الوصول إلى مستوى الدول الصناعية، والسير وذلك وفق نظم تعددية على شاكلة الدول المتقدمة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والبشري)). ومجالاتها الرئيسية، هي:
1 – التنمية الاقتصادية ومجالها: الاستثمارات واستغلال الموارد.
2 – التنمية الاجتماعية ومجالها: التعليم، الصحة ، الترفيه، الثقافة.
3 – التنمية العمرانية ومجالها: مواقع الاستثمارات والخدمات.
وتُعالج مسألة التنمية ضمن مواضيع الاقتصاد الإسلامي والاستخلاف في الأموال والزكاة والصدقات والحبس والأوقاف، وهي مختلفة تمام الاختلاف عن المدلول الاصطلاحي المغاير (الإلحادي، العلماني) ، حيث الوعي الإلحادي هو وعي مادي بحت نفعي مصلحي بهيمي وغريزي آني، يستغل طبقات بعينها كالطبقات الشغيلة (العمال والفلاحين)، وينطلق من صناعة الوعي الجماعي المادي المعزول والمجرد عن الإيمان بالله والتصديق بجماعية وسائل الإنتاج منطلقا واستغلالا وانتفاعا. أما الوعي العلماني لا يختلف عنه سوى في الفردانية المطلقة، ويدعي إيمانه بالدين، ولكنه يستبعد الله والدين بعيدا من واقع الحياة والناس. وكلاهما يُشكل ويصنع البنية الاجتماعية ويطورها وينميها، ويقرران أن الحياة قصيرة وفرصة لا تتكرر، ولا معنى لها مطلقا سوى التمتمع البهيمي والغريزي، والعَبُّ منها قدر الاستطاعة، ولا علاقة لعالم القيم والأخلاق والدين بهما، وكلاهما ذمهما القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ .. وَقالوا ما هي إلآّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر وماله بذلك من علم إن هم إلاّ يظنون(24)﴾ (الجاثية).
حيث يعتبر الاقتصاد العلماني أو الإلحادي التنمية عملية مربوطة بالواقع المادي المحسوس وأرقامه ومعطياته ومؤشراته، ولا علاقة له بالرؤية المرجعية الإسلامية، التي تربط عملية التنمية بالانضباط بالشريعة وبقيم الخير والأجر والبركة والحلال.
ونتساءل الآن – وبعد أن تبينا مفهومي القيمة والتنمية- قائلين: أين هو دور القيمة في عملية التنمية الشاملة؟ وهل هذا الاتجاه يمتلك قدرا من الصوابية والمردودية والنفع، أم أنه مجرد دعاية وتحشيد معنوي فقط؟
وهو ما سنتبينه بلغة الأرقام والحساب.
* دور القيمة الدينية في عملية التنمية الشاملة: ولنا أن نتساءل بكل موضوعية وحيادية قائلين: هل للقيمة دور في هاته العملية؟ وكيف؟ وما هي عائداتها النهضوية والمالية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية على الأمة؟ وهل يمكننا استثمار عالم القيم في بناء نهضة حقيقية وواقعية ملموسة؟ ومن هنا ننطلق لتناول بعض القيم وتبين عائداتها في الحياة الواقعية من خلال بعض الدراسات والأبحاث الميدانية التي أشرفتْ عليها الأجهزة المالية الرسمية المختصة لقطر من الأقطار الإسلامية البترولية (الجزائر) يبلغ تعداد سكانه أربعين مليون نسمة أثناء إعدادها لميزانية سنة 2016م 1437هـ ، وبينت الدراسة حجم الإنفاق وإهدار المال العام الذي يُبدد في التبذير والإسراف والتفاخر والتنافس في عالم الإنفاق.. من منتجات ومواد وأجهزة مستوردة بالعملة الصعبة، الأمر الذي يرفع من فاتورة الاستيراد التي تقارب عشرات المليارات من الدولارات، ولنتتبع نتائج تلك الدراسة.
*باحث وأكاديمي جزائري
تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين..مركز الملك سلمان ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة ..... المزيد
المؤتمر الوزاري العالمي من جدة: إنشاء مركز تعلم الصحة الواحدة لمقاومة مضادات الميكروبات ..... المزيد
ولي العهد يلتقي الفريق الطبي السعودي الذي نجح في إجراء أول عملية زراعة قلب كاملة باستخدام الروبوت في العالم ..... المزيد
“الصحة”تطلق حملة التحصين التكميلية للحصبة والحصبة الالمانية والنكاف ..... المزيد
سبل والصحة يوقعان اتفاقية على هامش ملتقى الصحة العالمي 2024 ..... المزيد
فهم ما يجري في المنطقة من اضطرابات
صدقة يحيى فاضلمجتمعنا بحاجة لمؤسسة تعزيز الصحة
الدكتور عبدالرحمن القحطانيهل بدأ اليوم التالي في المنطقة؟
حمود أبو طالبالتعليم: لا علاقة للعلاوة السنوية بالرخصة المهنية ..... المزيد
ضبط 3.6 طن من الثوم المخالف في نطاق بلدية بريمان بجدة ..... المزيد
البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت التجارية ..... المزيد
أمانة جدة تزيل 34 مظلة مخالفة ضمن حملة ميدانية لتصحيح المشهد الحضري” ..... المزيد
أمانة محافظة جدة تعزز التواصل بين القيادات والموظفين في اليوم العالمي لإدارة المشاريع ..... المزيد
شاركنا بتعليق
لا يوجد تعليقات بعد