عناوين الأخبار

أجيال لا تقرأ ولم تَعْتَدْ الكتاب والمكتبات!

السبت 29 أكتوبر 2016م       -       07:56:55 ص
أجيال لا تقرأ ولم تَعْتَدْ الكتاب والمكتبات!

أ .د. أحمد محمود عيساوي

* صناعة الممكن:

لو أتقن كل واحد من ا لنخبة الجزائرية وظيفته وتمهرها بمهنية واقعية ورسالية ووعي وصدق، لوجد نفسه قد انخرط بشكل تلقائي مع مجموعات وفئات وقوى وإرادات مختلفة أخرى ضمن إطار الفكرة الجوهرية البانية التي ستنهض بالأمة، ولأبصر تهافتا منقطع النظير من المتآلفين والمحبين والرافدين والمتحمسين والمنخرطين .. للتفاعل مع تلك الفكرة الأصيلة، ومن المقبلين عليها على اختلاف طباعهم ومستوياتهم ودرجاتهم وإمكاناتهم.. من الذين كانوا – بفعل آليات ومرحليات النهضة- ينتظرون انبعاث الشرارة النهضوية الأولى لينضموا إليها تباعا. ولوجدنا أنفسنا كنخبة متحمسة للرقي بهذه الأمة وهذا الوطن قد قطعنا أشواطا معتبرة في طريق النمو والنهضة العملية التي هي أُس النهضات.

ومع مطلع كل سنة دراسية جامعية يتفضل الله علينا بأن يُسخر إدارة الجامعة لتوكل إلينا مهمة تدريس السنة الأولى جامعي، وهي أفضل وأحسن – حسب تجربتي التعليمية التي قاربت الأربعة عقود- سَنَةٍ وموسم زراعي تتم فيه عملية الاستزراع القيمية والأخلاقية والمنهجية والمعرفية والعلمية والثقافية والحضارية المُفضلة دون سائر أيام ومواسم وفصول السنة، لمن أحسن استثمارها وزرعها.

وقد كشفتْ لي سنون التجربة أن بناء الفكرة الصحيحة والسليمة في أبنائنا أمر سهل وميسر ومتاح أيضا لمن أراد، ولكنه يحتاج إلى جملة من الأسس والآليات والجهود المهنية الصادقة، وما على النخبة إلاّ تجريبها فقط. فقد عدتُ يوم الثلاثاء الماضي وأنا متأبطٌ استمارات البحث الميداني الذي أجريته على طلاب السنة الأولى، والذي يدور محور تساؤلاته حول: أهم حدث ثقافي شهدته الجزائر (الأسبوع الماضي 23-27/10/2016م)، ولم أستطع الصبر  والتحمل الذي سيطول أمده لبضع دقائق لمعرفة الأجوبة وأبقى حبيس القلق في انتظار العودة إلى البيت، بل ارتميت وجلست في سياراتي وأنا ألتهم إجابات الطلبة بنهم لا مثيل له، حيث ستُنْبِئُنِي نتائج تلك الإجابات باتجاه سير البوصلة العلمية والفكرية والثقافية والحضارية للطلبة -العينات- الذين أُدرسهم، والذين هم نسخة حقيقية لشريحة اجتماعية مهمة في المجتمع الجزائري تقدر بمئات الألوف من أبناء ورجال المستقبل. وقد وسعتُ هذه الدراسة الميدانية باتجاه السنوات الأخرى ( 2، 3، 1 و 2 ماستر) فشملت قرابة الألف طالب وطالبة من الذين أدرسهم هذا العام الجامعي  المبارك والنافع إن شاء الله.

وتوزعت الإجابات على ثلاث اتجاهات رئيسة، وهي:

1 – الفئة الأولى وهي الغالبية العظمى من العينات المستجوبة التي لم تتمكن من تحديد وفهم معنى وصدى ومصطلح (الحدث الثقافي المهم) البتة، ولا تعرف معنى ومدلول الحدث الثقافي، بالرغم من ذيوعه السريع على مواقع التواصل الاجتماعي وتقدر نسبتها بخمسة وتسعين وستة وستين بالمائة (66،95%).

2 – الفئة الثانية وهي فئة تمثل أعدادا قليلة جدا أجابت بأن الحدث هو الاحتفال بالذكرى الثانية والستين لاندلاع الثورة التحريرية المباركة وتقدر بنسبة ثلاثة وثلاثة وثلاثين بالمائة  (33،3%)، وقد عرفوا واهتدوا إلى ذلك (الحدث الثقافي) من عمليات التزيين والتجميل ورفع الأعلام والرايات التي تعرفها الطرقات والشوارع الرئيسة في المدن الجزائرية احتفاءً بهذه المناسبة.

3 – الفئة الثالثة وهي فئة قليلة جدا وتقدر بنسبة ثلث من واحد بالمائة أي صفر فاصل ثلاثة وثلاثين بالمائة (33،0 %)، وهي التي أشارت إلى مناسبة فعاليات معرض الكتاب الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة الواحد والعشرين، وذلك من خلال سماعهم من بعض الأساتذة عن هذه المناسبة.             

ولم يتوصل أحد من المستجوبين الذين قاربوا الألف طالب وطالبة من حملة البكالورية والليسانس  وطلبة الماستر –للأسف-  أن يتعرفوا أن (الحديث الثقافي المهم والبارز) الذي شهدته الجزائر في الأسبوع الماضي وهو عودة التلميذ الجزائري المعجزة (محمد عبد الله فرح جلود) متوجا بجائزة أفضل قارىء عربي نافس أكثر من أربعة ملايين قارىء في العالم العربي، وقد قرأ خمسين كتابا في ثلاثة أشهر. وهذا هو عين الكارثة، وعليه فقد وجب علينا كنخب وككيان اجتماعي وكسلطة –إن كان يهمها ذلك أصلا-:

* التعرف على الحال وكيفيات تخطي الكارثة:

 والمتتبع والمتفحص لهذه النتائج الكارثية –إذا ضم إليها أيضا جملة من الملاحظات والمتابعات الأخرى- يتبين الحقائق المذهلة الآتية:

1 – حالة وواقع طلبة الجامعة المعرفي والعلمي والثقافي والأدبي والفكري، حيث لا تُشكل القراءة لهم أي مؤشر مهم أو رئيس في حياتهم، وعلينا أن نتخيل المستقبل المظلم في ظل أجيال غبية وجاهلة ومنحطة. فما بالكم بعامة وسواد الأمة.

2 – التعرف على اتجاه بوصلة طلبتنا وطالباتنا التي وصلت درجة العمى والعُته والجهل والأمية والغيّ، فاهتماماتهم لا تتعدى الجنس والرذيلة والفساد والفجور وتتبع عورات وسقطات ورذائل المبثوث في الشبكة، الذي نراه منزوع الحياء في الاختلاط البهيمي في الحرمات والمقدسات الجامعية وفي الشارع المنحل والمسلوب والمهزوم أيضا.

3 –  التعرف على المكونات التربوية والدينية والأخلاقية الأساسية التي تحكم الأسر والجماعات والبيوت وتوجهها، حيث استحالت البيوت إلى مجرد مرفق عام يرتفق فيه المتساكنون للرفث والنوم والأكل والتمتع بحياة البهائم فقط. في الوقت الذي يُلقي ويُحمّل فيه الفاشلون من ملايين الآباء والأمهات سبب همجية وتخلف وتأخر أبنائهم على مؤسسات التربية والتعليم (المدرسة، المسجد، المركز الثقافي..)، متناسين دورهم الرسالي.

4 – وضع ومكانة الكتاب والمكتبة والقراءة في حياة فردنا وجماعتنا وأسرتنا ومجتمعنا، حيث الأمية الطاغية الغالبة على الأجيال المفتونة بزجاجات السامري. وفي هذا السياق يمكنك معرفة مستوى الأساتذة والنخب أيضا من خلال فعاليات الملتقيات الدولية والوطنية كيف هان مستواها وانحط بفعل جفاف ينابيع القراءة.

5 – ضياع القيم المركزية في حياتنا وغيابها عن حكم وتوجيه مسارنا، والتي تناولتها في كتابَّي المنشورين (التغيير بالقراءة- الكويت) و(الدافعية للقراءة- مصر)، حيث الوقت والقراءة والكتاب والمعرفة قيم مركزية في حياة الكائن الآدمي المكرم والمحترم، أما البهائم الآدمية فهي في حكم قوله تعالى (..ثم رددناه أسفل سافلين إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، فلا إيمان بغير علم (فاعلم أنه لا إله إلاّ الله)، والقراءة هي أُس العمل الصالح، ولا عمل صالح بغير معرفة وعلم.

6 – حقيقة وواقع ومستوى الطالب الجامعي الذي لا يقرأ، وقد جاء من بيت والديه أَبْكَمَ أَصَمَّ أَعْجمَ. وهو غير مستعد لممارسة فعل القراءة، وما يزيد الواقع وَحْلا وأسناً تلك الفتاوى المجنونة التي تصدر عن بعض  أبواق السوء وغربان الجهل الديني الناعق والتي تحقن الطلبة السلفيين بفتاوى تشجع على  الجهل والبعد عن القراءة إلاّ ما كتبه ثلة من فئام الناس، بل منهم من يعّدُ القراءة رجس من عمل الشيطان عليهم اجتنابه.

7 – عدم الانتفاع بوسائط الاتصال الإلكترونية في التحصيل والكسب المعرفي والعلمي والثقافي، وتوفيرها للكتب والمعارف، واستخدامها في الرذائل والفساد والفجور، على الرغم من امتلاك كل طالب أفضل وأرقى أجهزة الاتصال. فلم يستطع أي طالب بما فيهم طلبة أقسام الدكتوراة السابقين أن يسموا لي كتابا واحدا قرؤوه إلكترونيا، فلا قراءة إلكترونية ولا ورقية أيضا.

8 – التعرف على اهتمامات وانشغالات ومكونات ومنطلقات ووسائل ومعارف وأهداف النخب الجامعية المستقبلية، التي سقطت في أول امتحان حضاري ينهض بها وبأمتها المنكوبة، ويحفظ أمنها الروحي والمعنوي. وهنا وجب علينا أن نسعى لـ:

* تخطي الكارثة:

  والوضع كما نصف كارثي حد النخاع، فكيف يمكننا إنقاذ هذه الأجيال؟ وهل جربنا بعض الحلول أم اكتفينا بالصراح والنواح فقط؟

 وهنا نود أن نسوق بعض المدعمات الأخرى التي أفادتنا في بحثنا، وهي تتبعي لحركة الطلبة وهم في قاعة المطالعة في المكتبة الجامعية، وترصدي لحركاتهم وتعاملاتهم الرعناء مع الكتاب ورفوف الكتب خلال ساعات فراغي، فأنا أتصنع القراءة معهم في القاعة، وفي الحقيقة أنا أراقبهم وأراهم عن كثبٍ وأتابع سلوكاتهم مع الكتاب والمكتبة والقاعة وكل من له علاقة بالوسط المكتبي، وكأنني أنظر إلى أولادي وهم في سن الثالثة والرابعة والخامسة من العمر وهم يعبثون أمامي في المكتبة وأنا أكتب وأحضر دروسي ومحاضراتي سنوات 1992م—2002م،وهذا أمر طبيعي لأنهم لم يتلقوا التربية المكتبية في منازلهم، بسبب تخلي الآباء والأمهات عن تلك الوظيفة الرسالية، وإليكم بعض ملاحظاتي:

1 – عدم احترام قوانين التواجد في المكتبة، من: هدوء وصمت واحترام، وخفض صوت أثناء التعامل، وعدم جر الكراسي والطاولات وعدم إحداث الضجيج، ونحوها..

2 – الجهل بقواعد التعرف على الكتاب والرفوف وأنواع المعارف والعلوم (جدول ديوي العشري).

3 – الجهل بالطريقة المثلى لاستخراج الكتاب من الرف وإرجاعه، دونما المساس بشكله وصفحاته من التمزيق.

4 – الجهل بعملية البحث في الكتاب، بحيث لا يعرف الطالب من أين يبدأ ومن أين ينتهي، ولا يعرف فهرس الموضوعات، ونحوها.. وهنا يقترح الباحث التجربة التالية لتخطي الكارثة:

* تجربة ناجحة:

  وتتمثل التجربة الناجحة كخطوة أولية وابتدائية – لجيل أهملته الأسرة والمدرسة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية طيلة عشرين سنة حتى صار يافعا بغير مهارات ومعطل القدرات، ومصابا بالعطالة النفسية والروحية والمعنوية والأدبية والمهارية..  في التقرب والتحبب والتودد إليه، والتواضع معه، وسماع انشغالاته، وتحسيسه بوضعيته غير السوية، وبقدراته المعطلة وكفاءاته المغيبة، وبإمكاناته التي يمكن إعادة تحريكها وتنشيطها، وما هي إلاّ بضع أسابيع ومحاضرات تشمل (أسس العلم، ومصطلحاته، ومنهجه)، مع شيء من الأخلاق المهنية والأبوية الصادقة في التوجيه والإرشاد والتطبيق التي يُحس بها الطلبة الجدد، والتي تحركهم في أعماقهم حتى يسألوك عن الكتاب الصالح للمادة التي تدرسهم إياها، فتقول لهم إنه الكتاب الفلاني لفلان، أو إنه كتابي الذي ألفته موافقا لمفردات برنامجكم الدراسي، ومن ثَمَّ تتوسع دائرة التوجيه والنصح إلى خارج مادتك لتعبر نحو المواد الأخرى، فتشير عليهم بكتاب الأستاذ الفلاني في تلك المادة التي يدرسونها، وهكذا السداسي الأول، فالسداسي الثاني، ويكون الطالب قد قرأ عشرة كتب مدرسية كبداية للكتب الثقافية والأدبية والدينية.. ومثيلاتها في السنوات الأربع المتبقية، فلا يتخرج بشهادة الماستر إلاّ وقد قرأ خمسين كتابا التي قرأها  (محمد عبد الله فرح جلود) في ثلاثة أشهر، فلعلنا ننقذ هذه الأجيال قبل فوات الأوان، ولات حين مندم.

*أكاديمي وباحث جزائري

 
يمكنك الوصول للخبر بسهولة عن طريق الرابط المختصر التالي:
https://alssehafi.org/?p=7530

شاركنا بتعليق








لا يوجد تعليقات بعد



 انخفاض الدرن في المملكة إلى 22%..والعلاج يستمر 6 أشهر والتحصين الحل الامثل

انخفاض الدرن في المملكة إلى 22%..والعلاج يستمر 6 أشهر والتحصين الحل الامثل ..... المزيد

 الدكتور عسيري: توفر لقاحات لمنع وعلاج السرطان

الدكتور عسيري: توفر لقاحات لمنع وعلاج السرطان ..... المزيد

 “الصحة” :  120 دقيقة لنقل جثث الموتى للطب الشرعي

“الصحة” :  120 دقيقة لنقل جثث الموتى للطب الشرعي ..... المزيد

 وزير الصحة يفتتح ملتقى الصحة العالمي 2023 بمشاركة وزيري الاستثمار والصناعة

وزير الصحة يفتتح ملتقى الصحة العالمي 2023 بمشاركة وزيري الاستثمار والصناعة ..... المزيد

 بقيادة المستشار في الديوان الملكي الدكتور الربيعة..البدء في عملية فصل التوأم السيامي التنزاني حسن وحسين

بقيادة المستشار في الديوان الملكي الدكتور الربيعة..البدء في عملية فصل التوأم السيامي التنزاني حسن وحسين ..... المزيد

 خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يتبرعان بمبلغ ١٥٠ مليون ريال لجود الإسكان

خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يتبرعان بمبلغ ١٥٠ مليون ريال لجود الإسكان ..... المزيد

 خادم الحرمين الشريفين يتبرع للحملة الوطنية للعمل الخيري بمبلغ ٤٠ مليون ريال وولي العهد بمبلغ ٣٠ مليون ريال

خادم الحرمين الشريفين يتبرع للحملة الوطنية للعمل الخيري بمبلغ ٤٠ مليون ريال وولي العهد بمبلغ ٣٠ مليون ريال ..... المزيد

 مركز الملك سلمان الجهة الوحيدة التي تتسلم أي تبرعات إغاثية أو خيرية أو إنسانية

مركز الملك سلمان الجهة الوحيدة التي تتسلم أي تبرعات إغاثية أو خيرية أو إنسانية ..... المزيد

 الأخصائية الاجتماعية أثير بنت فهد لـ”الصحافي”: زيادة الوعي وتعزيز التسامح وفرض العقوبات للحد من ظاهرة التنمر

الأخصائية الاجتماعية أثير بنت فهد لـ”الصحافي”: زيادة الوعي وتعزيز التسامح وفرض العقوبات للحد من ظاهرة التنمر ..... المزيد

 تحت رعاية ولي العهد..أمير منطقة الرياض يكرّم المحسنين عبر المنصة الوطنية للعمل الخيري (إحسان)

تحت رعاية ولي العهد..أمير منطقة الرياض يكرّم المحسنين عبر المنصة الوطنية للعمل الخيري (إحسان) ..... المزيد

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com